ابن التين: أن البخاري أبهم اسم الجبل عمدًا لأنه غلط، فهو غلط بل إبهامه من بعض رواته، فقد أخرجه في الجزية فسماه كما مرَّ، ومما يدل على أن المراد بقوله: في حديث أنس من كذا إلى كذا جبلان، ما وقع عند مسلم عن أنس مرفوعًا "اللهم إني أحرم ما بين جبليها" لكن عند المصنف في الجهاد بلفظ ما بين لابتيها، وكذا في حديث أبي هريرة ثالث أحاديث الباب، وكذا في حديث رافع بن خديج وأبي سعيد وسعد وجابر كلها عند مسلم، وكذا رواه أحمد والبيهقي والطبراني بلفظ: ما بين لابتيها، واللابتان تثنية لابة بتخفيف الموحدة، وهي الحرة؛ وهي الحجارة السود، وقد تكرر ذكرها في الحديث وعند أحمد عن جابر:"وأنا أحرم المدينة ما بين حرتيها"، وادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية ما بين جبليها، وفي رواية ما بين لابتيها، وفي رواية مأزميها وتعقب بأن الجمع بينهما واضح، وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح ولا شك أن رواية ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل أو أن لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة الغرب والشرق، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر وأما رواية مأزميها فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد والمأزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين، وقد يطلق على الجبل نفسه، والرواية من هذا المعنى الأخير.
وقوله:"لا يقطع شجرها" بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًا للمجهول، وفي رواية يزيد بن هارون، لا يختلى خلاها، وفي مسلم عن جابر لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها وعند أبي داود بإسناد صحيح لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ففي هذا أنه يحرم صيد المدينة وشجرها كما في حرم مكة قال ابن قدامة: يحرم صيد المدينة وقطع شجرها وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف: ليس للمدينة حرم كما لمكة فلا يمنع أحد من أخذ صيدها وقطع شجرها واحتج الطحاوي بحديث أنس في قصة أبي عمير ما فعل بالنغير، قال: لو كان صيدها حرامًا ما جاز حبس الطير وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل قال أحمد من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله، لحديث أبي عمير وهذا قول الجمهور، ولكن لا يرد ذلك على الحنفية لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد، ولو كان قطع شجرها حرامًا ما فعله -صلى الله عليه وسلم-، وتعقب بأن ذلك كان في أول الهجرة كما مرَّ في أوائل الصلاة في باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها، فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها كما روى ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن هدم آطام المدينة فإنها من زينة المدينة فلما انقطعت الهجرة