بل إنما خاطب بذلك رجلًا من أهل خراسان، سأله عمن يعتق أمته ثم يتزوجها، كما مر. وقد أخرج ذلك المصنف في ترجمة عيسي بن مريم، وقوله "بغير شيء"، أي: من الأمور الدنيوية، وإلا فالأجر الأُخروي من ثواب التعليم، أو التبليغ، حاصل له. وقوله:"قد كان يُركب" وللأصيلي "وقد" بالواو، ولغيره "فقد" بالفاء، ويركب مبنيٌ للمجهول. وقوله:"فيما دونها" أي: يرحل لأجل ما هو أهون منها، كما عنده في الجهاد، والضمير عائد على المسألة. وقوله:"إلى المدينة" أي النبوية، قال في "الفتح": وكان ذلك في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، ثم تفرق الصحابة في البلاد بعد فتوح الأمصار، وسكنوها، فاكتفى أهل كل بلد بعلمائه إلا من طَلَب التوسع في العلم، فرحل، وقد مر حديث جابر في ذلك، ولهذا عبر الشعبيُّ وهو من كبار التابعين، بقوله "كان".
واستدلال ابن بطّال وغيره من المالكية بهذا الحديث، على تخصيص العلم بالمدينة، فيه نظرٌ، لما قررناه. وإنما قال الشعبيّ ذلك تحريضًا للسامع، ليكون ذلك أدعى لحفظه، وأجلب لحرصه. وقد روى الدارميُّ بسند صحيح، عن بُسْر بن عُبيد الله، قال: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد. وعن أبي العالية قال: كنا نسمع الحديث عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم.
قلت: ما اعترض به على ابن بطّال من تخصيص العلم بالمدينة لا حجة فيه، إنما قصَد ابن بطّال بالتخصيص كثرته فيها عن غيرها من الأمصار، وما استدل به من تفرق الصحابة في البلاد حق، ولكن لا ينهض حجة, لأنَّ وجودهم في البلاد لا يبلغ ما في البلد منهم غير المدينة معشار عشر ما بالمدينة منهم، فقد روي عن مالك أن البقيع دفنت فيه عشرة آلاف منهم. وأين هذا من غير المدينة، ولا شك أن موضع الوحي وكثرة الصحابة والتابعين في ذلك الزمان أكثر علمًا من غيره، وأخص بالعلم، ولأجل هذا جعل مالك عملها في ذلك الزمان مقدمًا على خبر الأحاديث.