الثانية: ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريق نستلزم هدم أحكام الشريعة، فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواصّ، فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى. ويؤيده الحديث المشهور "استفت نفسك وإنْ أفْتَوك". قال: وهذا القول زندقة وكفر؛ لأنه إنكار لما علم من الشرائع. فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله، السفراء بينه وبين خلقه، المثبتين لشرائعه وأحكامه، كما قال تعالى {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}[الحج: ٧٥] وقال {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام: ١٢٤] وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به، فإن فيه الهدى.
وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقًا أُخرى يعرف بها أمره ونهيه، غير الطريق التي جاءت بها الرسل، يستغني بها عن الرسول، فهو كافر يقتل ولا يستتاب. قال: وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة غير نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه؛ لأن الذي يقع فيه هو حكم الله، وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، كما قال نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم:"إن رُوح القُدُس نَفَث في رَوْعي"، قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت وكذا قال آخر: أنا آخذ عن قلبي من ربي. وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع، ونسأل الله الهداية والتوفيق.