ويؤيده من جهة النظر ما مرَّ عن ابن المُنير أن الاستقب الذي البنيان مضاف إلى الجدار عرفًا، وبأن الأمكنة المعدة لذلك مأوى الشياطين فليست صالحة لكونها قبلة، بخلاف الصحراء فيهما.
وقال قوم بالتحريم مطلقًا، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به أبو ثور صاحب الشافعي، ورجحه من المالكية ابن العربي، ومن الظاهرية ابن حزم. وحجتهم أن النهي مقدم على الإِباحة، ولم يصححوا حديث جابر الذي أشرنا إليه، واحتجّوا أيضًا بان تعظيم القبلة موجود فيهما، وبأن الجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل فهو موجود في الصحراء، كالجبال والأودية.
وقال قوم بالجواز مطلقًا، وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود، واعتلّوا بأن الأحاديث تعارضت، فليُرجع إلى أصل الإِباحة.
وقيل: بجواز الاستدبار في البنيان فقط، تمسكًا بظاهر حديث ابن عمر، وهو قول أبي يوسف.
وقيل: بالتحريم مطلقًا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس، وهو محكيٌّ عن إبراهيم وابن سيرين، عملًا بحديث معقِل الأسدي:"نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببولٍ أو غائط" رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف, لأن فيه راويًا مجهول الحال، وعلى تقدير صحته فالمراد بذلك أهل المدينة ومن على سمتها, لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة، فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس.
وقد ادّعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة، قال في "الفتح": وفيه نظر، لما مرَّ عن إبراهيم وابن سِيرين، وقد قال به بعض الشافعية، حكاه ابن أبي الدّم.
قلت: يمكن الجواب عن إيراده بانعقاد الإجماع بعد عصر المذكورين، وبأن ما ذكر عن بعض الشافعية لا يقدح في الإجماع لضعفه.