ويؤخذ من ذلك أنه أقمع للعطش، وأقوى على الهضم، وأقل أثرًا في ضعف الأعضاء وبرد المعدة، واستعمال أفعل التفضيل في هذا يدل على أن للمرتين في ذلك مدخلًا في الفضل المذكور.
ويؤخذ منه أن النهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه، وهذا قول مالك. وقال عمر بن عبد العزيز: إنما نُهي عن التنفس داخل الإناء، فأما من لم يتنفس فإن شاء فليشرب بنفس واحد وهو تفصيل حسن.
وقد ورد الأمر بالشرب بنفس واحد عن أبي قتادة مرفوعًا أخرجه الحاكم، ويمكن حمله على التفصيل المذكور، قال المهلب: النهي عن التنفس في الشراب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب، من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق، فيعافه الشارب ويتقذره إذ كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس، ومحل هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وأمّا لو أكل وحده أو مع أهله أو من يعلم أنه لا يتقذر شيئًا مما يتناوله فلا بأس.
قال في "الفتح": الأولى تعميم المنع, لأنه لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة، أو يحصل التقذر من الإناء أو نحو ذلك.
قلت: ما قاله المهلب أولى وأوجه, لأن الاستقذار إنما يحصل ويُحذر منه حالة الأكل، فإذا أُمن منه حالة الأكل فالاطلاع عليه بعد الأكل بعيد, لأن ما يحصل من التنفس قليل جدًّا لا يظهر له تأثير.
وفي هذا ردٌّ أيضًا على قول ابن العربي: هو من مكارم الأخلاق. ولكن يحرم على الرجل أن يُناول أخاه ما يتقذره، فإن فعله في خاصة نفسه فجاء غيره فناوله إياه فليعلمه، فإن لم يعلمه فهو غشٌّ، والغشُّ حرام.
والعجب منه حيث قال: إن عدم إعلامه بما تنفس فيه حرام، فكيف يكون حرامًا؟ وأي وجه لحرمته؟ فإن البصاق طاهر إجماعًا، فإذا تسبب في أكله لشيء طاهر لم يظهر له فيه استقذار كيف يكون حرامًا؟ ولو كان ظهر له فيه قذر ما أكله،