وقال أبو حنيفة: لا يحرُم عصير العنب النيّئ حتى يغلي ويقذف بالزبد، فإذا على وقذف بالزبد حرم، وأما المطبوخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، فلا يمتنع مطلقًا، ولو على وقذف بالزبد بعد الطبخ. وقال في المتَّخَذ من غير العنب: لا يحرُم منه إلا القَدْر الذي يُسكر، وما دونه لا يحرُم.
ففرَّقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم، مع اتحاد العلة فيهما، فإن كل ما قُدِّر في المتخذ من العنب يُقدر في المتجذ من غيرها، واستدلوا بحديث ابن عباس مرفوعاً وموقوفًا أخرجه النَّسائي ورجاله ثقات:"إنما حُرِّمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكرُ من كل شراب". قالوا: فهذا يدُل على أن الخمر قليلها وكثيرها أسكرت أم لا حرام، وعلى أن غيرها من الأشربة إنما يحرم عند الإسكار.
وقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية في هذا الحديث بلفظ:"والمُسْكر" بضم الميم، لا السُّكْر بضم فسكون، وعلى تقدير ثبوتها، فهو حديث فرد، ولفظه محتمِل، فكيف يعارِض تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها.
وقذ قال أبو المظفَّر ابن السمعاني: ثبتت الأخبار الكثيرة في ذلك، فلا مساغ لأحد في العدول عنها، والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع، وقد زلَّ الكوفيون في هذا الباب، وروَوْا أخبارًا معلولة لا تُعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب مسكرًا فقد دخل في أمر عظيم، وباء بإثم كبير، وإنما الذي شربه كان حلوًا ولم يكن مسكرًا.
وقال أبو الليث السَّمَرْقندي: شارب المطبوخ إذا كان يُسكر أعظم ذنبًا من شارب الخمر؛ لأن شارب الخمر يشربُها وهو يعلم أنه عاصٍ، وشارب المطبوخ يشرب المُسكر وهو يراه حلالًا، وقد قام الإجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام، وثبت قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل مُسْكِر حرام"، ومن استحل ما هو حرام بالإجماع كفر، وقد قال بعض الشعراء في المئة الثالثة، معرِّضًا بمن يُفتي بإباحة المطبوخ:
وأشربُها وأزعُمها حرامًا ... وأرجو عفوَ ربٍّ ذي امتنانِ