ويشربُها ويزعُمها حلالًا ... وتلكَ على المسيء خطيئتانِ
واستدلوا لشراب المطبوخ بما أخرجه "الموطأ" عن عمر في قدومه للشام أن أهله شكوا إليه وباء الأرض، وقالوا: لا يُصلِخنا إلاَّ هذا الشراب. فقال عمر: اشربُوا العسل. قالوا: ما يُصلحنا العسل. فقال رجال من أهل الأرض: هل لك أن نجعلَ لك من هذا الشراب شيئًا لا يُسكر؟ فقال: نعم. فطبخوه حتى ذهب منه ثلثان وبقي الثلث، فأتَوا به عمر، فأدخل فيه أُصْبُعَه، ثم رفع يده، فتبعها يتمطَّط، فقال: هذا الطِّلاء مثل طِلاء الإِبل. فأمرهم عمر أن يشربوه، وقال: اللهم إني لا أُحِلُّ لهم شيئًا حرمتَهُ عليهم. والطِّلاء -بكسر المهملة والمد- الدبس، شُبِّه بطلاء الإبل وهو القَطِران الذي يُدهن به.
ووجه الاستدلال به عندهم هو أنه أمر بشرب المطبوخ، ولم يفصِّل بين ما إذا أسكر أو لم يُسكر.
ورُد هذا الاستدلال بما في الأثر نفسه من قولهم له: نجعل لك شيئًا لا يُسكر. فما قَبِلَ الشراب إلا بشرط أنه لا يُسكر. وبقوله رضي الله تعالى عنه في آخره: اللهم لا أُحلُّ لهم شيئًا حرمته عليهم. فإنه يدل على التفصيل؛ لأن المسكر حرمه الله تعالى.
وبرده أيضًا ما أخرجه البخاري تعليقًا، ومالك وسعيد بن منصور موصولًا، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه خرج عليهم، فقال: إني وجدت من فلان ريحَ شرابٍ، فزعم أنه شراب الطِّلاء، وإني سائل عمّا شرب، فإن كان يُسكر جلدته، فجلده عمر الحدَّ تامًّا، يعني بعد أن سأل عنه، فوجده يُسكر. فهذا الأثر يبين أن ما أحله عمر من المطبوخ الذي يسمى الطلاء، المراد به ما لم يبلغ حدَّ الإسكار، فإن بلغه لم يحِل عنده، ولذلك جلدهم، ولم يستفصل: هل شوبوا منه قليلًا أو كثيرًا.
فالحاصل أن مذهب الحنفية هذا مخالف لمذاهب الأئمة الثلاثة وجمهور العلماء، فإن الشراب عندهم محرَّم إذا صار مسكرًا شُرْبُ قليله وكثيره، وسواء غلى أو لم يغل؛ لأنه يجوز أن يبلغ حد الإسكار بأن يغلي، ثم يسكن غليانه