ومن هذا المعنى حديثُ البَراء:"كُنَّا إذا صلَّيْنا خلفَ النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم مِمَّا نُحِبُّ أن نكون عن يمينه"، وحديث سَمُرةَ: كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه: "مَنْ رأى منْكُمْ رؤيا؟ ".
ويؤيد هذا المعنى روايةُ البخاري في التفسير: إذا نَزَلَ جبريلُ بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه، فأتى بهذا اللفظ مجردًا عن تقدم العِلاج الذي قدره الكِرماني قائلًا: إن المعنى أي: كان العلاج ناشئًا من تحريك شفتين أي: مبدأ العلاج منه، وتُعُقِّبَ هذا بأن الشدةَ حاصلةٌ قَبْلَ التحريكِ، وأجيب بأن الشدةَ وإن كانت حاصلةً قبله إلا أنها لم تظهر إلا بتحريك الشفتين، إذ هي أمرٌ باطني لا يدركه الرائي إلا به.
وقيل: إن "ما" بمعنى "مَن" الموصولة، وأُطلقت على من يعقِل مجازًا، أي: وكان ممن يُحرِّك شفتيه، وكان يُكثر مِن هذا الفعلِ حتى لا ينسى أوله قبل أن يَفْرَغَ منه، أو لحلاوة الوحي في لسانه ومحبته إياه، ولا تنافي بين محبته إياه، والشدة التي تلحقه في ذلك.
وقوله:"فقال ابن عباس: فأنا أحركهما" إلى قوله: "فأنزل اللهُ": جملة معترضة بالفاء، وفائدتها زيادة البيان في الوصف على القول، وعَبَّر في الأول بقوله: كان يحركهما، وفي الثاني برأيت, لأن ابن عباس لم ير النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الحالة لأن سورة القيامة مكيةٌ باتفاق، والظاهر أن نزولها كان في بدء الأمر كما يدلُّ عليه صنيعُ البخاري، من إيراده هذا الحديث في بدء الوحي، وابنُ عباس لم يكن وُلِدَ إذ ذاك، لأنه وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوزُ أن يكون أخبره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك بعدُ، كما ثبت صريحًا في مسند أبي داود الطَّيالِسي، ولفظهُ: قال ابنُ عباس: فأنا أحرك لك شفتيَّ كما كان