وقوله: ربِّ اغفر لي وهَبْ لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي من البشر مثله، فتركه عليه الصلاة والسلام مع القدرة عليه، حرصًا على إجابة الله عَزَّ وَجَلَّ دعوة سليمان، في رواية أبي ذَرٍّ هكذا "رب اغفر لي" إلى آخر الآية، أي من بعدي. وفي بقية الروايات "رب هب لي" قال الكرماني: لعله ذكره على طريق الاقتباس لا على قصد التلاوة، لكن عند مسلم كما في رواية أبي ذرٍّ على نسق التلاوة، والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة، وأما ما أخرجه الطبريّ عن قتادة، قال في قوله {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} لا أسلبه كما سلبته أول مرة، فظاهر حديث الباب يرد عليه، وكان سبب تأويل قتادة هذا هكذا طعن بعض الملاحدة على سليمان، ونسبته في هذا إلى الحرص على الاستبداد بنعمة الدنيا، وخفي عليه أن ذلك كان بإذن له من الله، وأن تلك كانت معجزته كما اختص كل نبي بمعجزة دون غيره، ويحتمل أن تكون خصوصية سليمان استخدام الجن في جميع ما يريده، لا في هذا القدر فقط، وفهم ابن بطال وغيره منه، أنه كان حين عَرَض له غير متشكل بغير صورته الأصلية، فقالوا: إن رؤية الشيطان على صورته التي خلق عليها خاص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما غيره من الناس فلا، لقوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} ... الآية.
وقال الخطابيّ: استدل بهذا الحديث على أن أصحاب سليمان، كانوا يرون الجن في أشكالهم وهيأتهم حال تصرفهم. قال: وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} فالمراد الأكثر الأغلب من أحوال بني آدم، وتُعُقب بان نفي رؤية الإِنس للجن على هيئتهم ليس بقاطع من الآية، بل ظاهرها أنه ممكن، فإنَّ نفيَ رؤيتنا إياهم مقيدٌ بحال رؤيتهم لنا, ولا ينفي إمكان رؤيتنا لهم في غير تلك الحالة، ويحتمل العموم، وهذا الذي فهمه أكثر العلماء، وهذا محمول على من يدّعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها، وأما من ادعى أنه يرى شيئًا منهم بعد أن يتصور على صور شتى من الحيوان، فلا