وعند المالكية: يندب للفذ المسافر خاصة دون الحاضر، وكذا للجماعة المسافرة التي لم تطلب غيرها يندب لها، لما رواه "الموطأ" عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: "من صلى بأرض فلاة، صلى عن يمينه ملك، وعن شماله ملك، فإذا أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة أمثال الجبال".
قلت: هذا الحديث رواه النَّسائيّ مرفوعًا عن سَلْمان الفارسيّ، مع أن المرسل له حكم الرفع، إذ لا يعلم إلا بالتوقيف. وحديث الباب شاهد لمذهب المالكية؛ لأن السفر عندهم المراد به السفر اللغويّ لا الشرعيّ، والخروج في الغنم والبادية سَفَر لُغويّ، وليس في الحديث شاهد لما استدل به الرافعيّ من الندب مطلقًا في الحضر والسفر. وظاهر كلام العينيّ أن مذهبهم كمذهب الشافعية.
وقوله:"مدى صوت المؤذن"، أي: غاية صوته. قال البَيضاويّ: غاية الصوت تكون أخفى من ابتدائه، فإذا شهد له من دنا منه وسمع مبادىء صوته أولى. وقوله:"جن ولا إنس ولا شيء"، ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات، فهو من العام بعد الخاص، ويؤيده ما في رواية ابن خزيمة:"لا يسمع صوته شجر ولا مَدَر ولا حجر ولا إنس"، ولأبي داود والنَّسائيّ، عن أبي هُريرة بلفظ:"المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابسٍ"، ونحوه للنَّسائيّ وغيره من حديث البراء، وصححه ابن السكن. فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب:"ولا شيء"، وقد تكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على غير ما يقتضيه ظاهره. قال القرطبي: قوله: ولا شيء، المراد به الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في قوله:"جن" لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل دون الجمادات. ومنهم من حمله على ظاهره، وذلك غير ممتنع عقلًا ولا شرعًا.
قال ابن بُزَيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا تكون إلا من حي، فهل ذلك حكاية عن لسان الحال؛ لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال باريها، أو هو على ظاهره، وغير ممتنع عقلًا أن الله يخلق فيها الكلام؟