وأجاب المحب الطبريّ بأنه يحتمل أن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ أوحى إليه أنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم، افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم، فترك المواظبة. قال: ويحتمل أن يكون ذلك وقع في نفسه كما اتفق في بعض القُرَب التي داوم عليها، فافترضت. وقيل: خشي أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب، وإلى هذا نحا القُرْطُبيّ فقال: قوله فتفرض عليكم، أي تظنونه فرضًا، فيجب على من ظن ذلك، كما إذا ظن المجتهد، حل شيء أو تحريمه فإنه يجب عليه العمل به.
قلت: ما قاله القُرْطُبيّ مغاير لما قاله المحب الطَّبَريّ كما يفهم ذلك مَن تأمله، ثم قال القُرْطُبيّ: وقيل: كان حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا واظب على شيء من أعمال البر، واقتدى الناس به فيه أنه يفرض عليهم، ولا يخفى بعد هذا الأخير, لأنه عليه الصلاة والسلام قد واظب على رواتب الفرائض، وتابعه أصحابه، ولم تفرض. وقال ابن بَطّال: يحتمل أن يكون هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم، لمّا كان قيام الليل فرضًا عليه دون أمته، فخشي إن خرج إليهم والتزموا معه قيام الليل أن يسوي الله بينه وبينهم في حكمه, لأنّ الأصل في الشرع المساواة بين النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وبين أمته في العبادة. قال: ويحتمل أن يكون خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها، فيعصي من تركها بترك اتباعه عليه الصلاة والسلام، وقد استشكل الخطابيّ أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء، من أن الله تعالى قال:"هن خمس، وهن خمسون، لا يبدل القول لديّ" فإذا أمن التبديل، فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وهذا يدفع في صدور الأجوبة التي تقدمت.
وقد أجاب عنه الخطابيّ بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها، أي عند المواظبة، فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به، لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر فتجب عليه، ولا يلزم من ذلك زيادة فرض في أصل الشرع. قلت: ما قاله الخَطّابيّ هنا هو ما مرَّ عن ابن بطال، إلا أنه هو زاد أن الأمة يجب عليها الاقتداء به عليه عليه الصلاة والسلام في أفعاله الشرعية، ولم أعلم أحدًا من العلماء قال: إن الأمة يجب عليها ما هو واجب عليه عليه الصلاة والسلام بالخصوص، ثمّ قال: وفيه احتمال الآخر، وهو أن الله فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمها بشفاعة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام منه، لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضًا عليهم، كما التزم ناس الرهبانية من قِبَل أنفسهم ثم عاب الله عليهم التقصير فيها، فقال:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}[الحديد: ٢٧]، فخشي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون سبيلهم سبيل أولئك، فقطع العمل شفقة عليهم من ذلك.
قال في "الفتح": وقد تلقى هذين الجوابين من الخَطَّابِيّ جماعة من الشُّرَّاح كابن الجَوْزِيّ,