للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بين نفي الكمال ونفي الصحة وليس أحدهما أولى، فيلزم الإجمال وهو خطأ لأن العرب لم تضعه لنفي الذات وإنّما تورده للمبالغة. ثم تذكر الذات ما أرادت من المبالغة. وقيل: هو عام مخصوص عام في نفي الذات وأحكامها ثم خصّ بإخراج الذات لأن الرسول لا يكذب. وقيل: هو عام غير مخصوص لأن العرب لم تضعه لنفي الذات بل لنفي أحكامها، وأحكامها في مسألتنا الصحة والكمال وهو عام فيهما ورده المحققون بأن العموم إنّما يحسن إذا لم يكن فيه تنافٍ، هو هنا لازم لأن نفي الكمال يصحّ معه الإجزاء ونفي الصحة لا يصح معه الإجزاء.

وصار المحققون إلى الوقف وأنه تردد بين نفي الكمال والإجزاء، فإجماله من هذا الوجه لا ممّا قاله الأولون، وتعقبه الأبي فقال: ما رد به الأول لا يرفع الإجمال لأنه وإن سلم أنه لنفي الحكم فالأحكام متعددة وليس أحدها بأولى، وإنما الجواب ما قيل من أنه لا يمتنع، نفي الذات أي: الحقيقة الشرعية لأن الصلاة في عرف الشرع اسم للصلاة الصحيحة فإذا فقد شرط صحتها انتفت، فلابد من تعلق النفي بالمسمى الشرعي، ثم لو سلّم عوده للحكم لم يلزم الإجمال لأنه في نفي الصحة أظهر؛ لأن مثل هذا اللفظ يستعمل عرفًا لنفي الفائدة كقولهم لا علم إلا ما نفع، ونفي الصحة أظهر في بيان نفي الفائدة، وأيضًا اللفظ يشعر بالنفي العام، ونفي الصحة أقرب إلى العموم من نفي الكمال لأن الفاسد لا اعتبار له بوجه، ومن قال أنه عام مخصوص فالمخصص عنده الحسن؛ لأن الصلاة قد وقعت كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا ترَى (١) إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} فإن الحسّ يشهد بأنها لم تدمر الجبال.

وقال في فتح القدير قوله: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب هو مشترك الدلالة لأن النفي لا يرد إلا على النسب لا على نفس الفرد، والخبر الذي هو متعلق الجار محذوف، فيمكن تقديره صحيحة فيوافق قول الشافعي أو كاملة فيخالفه وفيه نظر؛ لأن متعلق المجرور الواقع خبرًا استقرار عام فالحاصل لا صلاة كائنة وعدم الوجود شرعًا هو عدم الصحة. هذا هو الأصل بخلاف لا صلاة لجار المسجد .. الخ، ولا صلاة للعبد الآبق فإن قيام الدليل على الصحة أوجب كون المراد كونًا خاصًا أي: كاملة، فعلى هذا يكون من حذف الخبر لا من وقوع الجار والمجرور خبرًا، ويؤيد حمله على نفي الصحة والإجزاء ما رواه الإسماعيلي عن العبّاس بن الوليد أحد شيوخ البخاري عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ: لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.

وأخرجه ابن حبّان وابن خزيمة وغيرهما بهذا اللفظ عن أبي هريرة، وأخرج أحمد بلفظ: لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن، وقد أخرج ابن خزيمة عن محمد بن الوليد القرشي حديث الباب بلفظ لا صلاة إلاَّ بقراءة فاتحة الكتاب، فلا يمتنع أن يقال أن قوله لا صلاة نفي بمعنى النهي أي: لا تصلّوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ونظيره ما رواه مسلم عن عائشة مرفوعًا لا صلاة بحضرة الطعام


(١) هذه رواية ورش عن نافع وهي السائدة في بلاد المغرب. (المصحح).

<<  <  ج: ص:  >  >>