له أي: قصدوا سماع القرآن وأصغوا إليه. وقوله:"فهنالك" هو ظرف مكان والعامل فيه قالوا وفي رواية فقالوا والعامل فيه رجعوا. وقوله:"فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبا" أي: بديعًا مباينًا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه قائمة فيه دلائل الإعجاز وانتصاب عجبًا على أنه مصدر وضع موضع التعجب وفيه مبالغة، والعجب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره. وقوله:"يهدي إلى الرشد" أي: يدعو إلى الصواب وقيل: يدعو إلى التوحيد والإيمان.
وقوله:"فآمنا به" أي: بالقرآن. وقوله:"ولن نشرك بربنا أحدا" يعني: لما كان الإيمان بالقرآن إيمانًا بالله عَزَّ وَجَلَّ وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا: لن نشرك بربنا أحدًا، قال الماوردي: ظاهر هذا أنهم آمنوا عند سماع القرآن، قال: والإيمان يقع بأحد أمرين إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة فيقع له العلم بصدق الرسول، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى فيها دلائل على أنه النبي المبشر به وكلا الأمرين في الجن محتمل.
وقوله:"وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على نبيه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} " زاد التِّرمِذِيّ قال ابن عباس: وقول الجن لقومهم: "لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا" قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته يسجدون بسجوده قال: فتعجبوا من طواعية أصحابه له قالوا لقومهم ذلك، قال ابن عباس: لبدا أعوانًا.
أخرجه التِّرمِذِيّ عنه في آخر الحديث المار قريبًا ووصله ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هكذا، وقراءة الجمهور بكسر اللام وفتح الباء وهشام وحده بضم اللام وفتح الباء فالأولى جمع لبدة بكسر فسكون نحو قربة وقرب واللبدة واللبده الشيء الملبد أي: المتراكب بعضه على بعض وبه سمي اللبد المعروف والمعنى: كادت الجن يكونون عليه جماعة متراكبة مزدحمين عليه كاللبدة وأما التي بضم اللام فهي جمع لبدة بضم فسكون مثل غرفة وغُرف والمعنى: أنهم كانوا جمعًا كثيرًا كقوله تعالى: {مَالًا لُبَدًا} أي: كثيرًا، وروي عن أبي عمرو أيضًا بضمتين فقيل: هي جمع لَبُود مثل صُبُر وصَبُور، وهو بناء مبالغة وقرأ ابن محيض بضم فسكون وكأنها مخففة من التي قبلها، وقرأ الجحدري بضمة ففتحة مشددة جمع لابد كسُجَّد وساجد وهذه القراآت كلها راجعة إلى معنى واحد وهو أن الجن تزاحموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- لما استمعوا القرآن، وهو المعتمد.
وروى عبد الرزاق عن قتادة لما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- تلبدت الإنس والجِن وحرصوا على أن يطفئوا هذا النور الذي أنزله الله تعالى، وهو في اللفظ واضح في القراءة المشهورة للغة مخالف في المعنى.
وقوله:"وإنما أُوحي" قول الجن هذا كلام ابن عباس كأنه تقرر فيه ما ذهب إليه أولًا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يجتمع بهم، وإنما أوحى الله إليه بانهم استمعوا ومثله قوله تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} الآية، ولكن لا يلزم من عدم ذكر اجتماعه بهم أن لا يكون اجتمع بهم بعد ذلك كما تقدم من أن ابن مسعود أثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ على الجن.