وعند المصنف في المبعث عن أبي هريرة: وأنه أتاني وقد جن نُصَيْبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعامًا. وهذا الحديث ظاهر في اجتماع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجن وحديثه معهم لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن. لأن في حديث أبي هريرة أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلتئذ. وأبو هريرة إنما قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة السابعة في المدينة، وقصة استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس صريح في ذلك فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن والرجوع إلى قومهم منذرين كما وقع في القرآن وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بيِّن في الحديثين المذكورين، ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضًا بمكة وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود كما سنذكره. وأما حديث أبي هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدبنة، ويحتمل تعدد القدوم بمكة مرتين وبالمدينة أيضًا قال البيهقيّ: حديث ابن عباس حكى ما وقع في أول الأمر عندما علم الجن بحاله -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك الوقت لمن يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليه القرآن كما حكاه ابن مسعود وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد والحاكم عن ابن مسعود قال: هبطوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ القرآن ببطن نخل، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا وكانوا سبعة أحدهم زوبعة، وهذا يوافق حديث ابن عباس. وأخرج مسلم عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: هل صحب أحدٌ منكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل استطير فبتنا شر ليلة فلما كان عند السحر إذا نحن به يجيء من نحو حراء فذكرنا له فقال: أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.
وقول ابن مسعود في هذا الحديث إنه لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصح مما رواه الزهري. أخبرني أبو عثمان بن شيبة الخزاعي أنه سمع ابن مسعود يقول:"إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن ينظر الليلة أثر الجن فليفعل قال: فلم يحضر منهم أحد غيري فلما كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطًا ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق ثم قرأ القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا، وفرغ منهم مع الفجر ثم انطلق" الحديث. قال البيهقي: يحتمل أن يكون قوله في الصحيح: ما صحبه منا أحدٌ أراد به في حال إقرائه القرآن لكن قوله في الصحيح إنهم فقدوه يدل على أنهم لم يعلموا بخروجه إلاَّ أن يحمل على أن الذي فقده غير الذي خرج معه ولرواية الزهري متابع من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن ابن مسعود قال: استتبعني النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن نفرًا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتونني الليلة فاقرأ عليهم القرآن فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطًا فذكر الحديث نحوه وأخرجه الدارقطني وابن مردويه وغيرهما، وقد مرَّ أن حراسة السماء من استراق الجن السمع كان قبل المبعث النبوي، ثم لما انتشرت الدعوة وأسلم مَنْ أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا، وكان ذلك