للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكنه بخلافه فهو سنة. قلت: لا دليل لهم في هذا الحديث؛ لأن السلام لم يترك وإنما أُخر عن محله نسيانًا، وكذلك كل ركن إذا ترك نسيانًا يتدارك بالإِتيان به. وأجاب الطحاوي عن حديث تحليلها التسليم بأنه من الآحاد، فلا يثبت به الفرض، وأورد عليه إثبات فرضيته تكبيرة الإحرام بالآحاد، وأجابوا عن ذلك بأن فرضية التكبير في أول الصلاة وهو قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}. غاية ما في الباب أن الحديث يكون بيانًا لما يراد من النص، والبيان به يصح كما في مسح الرأس.

قلت: غير خافٍ أن ما ذكروه في معنى الآيتين غير متحتم، بل لهما تأويل غير ذلك ولاسيما الأخيرة ولم يذكر في الحديث عدد التسليم، وقد اختلف العلماء فيه فذهب عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وابن سيرين ومالك والأوزاعي إلى أن التسليم في آخر الصلاة مرة واحدة. وروي عن عائشة وابن عمر وأنس واستدلوا بالحديث المار قريبًا: "تحريمُها التكبيرُ وتحليلُها التسليمُ" فحيث كان التحريم حاصلًا بالإجماع بتكبيرة واحدة كذلك التحليل يحصل بتسليمة واحدة فأي فرق بينهما؟ بل لو كان بينهما فرق لكان التكبير أولى بالتكرير؛ لأنه دخول في الشيء، والدخول آكد من الخروج؛ ولأجل هذا لم توجب الحنفية السلام كما مرّ قريبًا. واحتجوا أيضًا بحديث عائشة المروي في "السنن": "أنه -صلى الله عليه وسلم- كانَ يسلمُ تسليمةً واحدةً السَّلامُ عليكم يرفعُ بها صوتَهُ حتى يوقظنا بها".

وأخذ الشافعي وأبو حنيفة وصاحباه والثوري والشعبي وإسحاق وابن المنذر بأن التسليم في آخر الصلاة اثنتان: مرة عن يمينه، ومرّة عن شماله. وروى عن أبي بكر وعلي وابن مسعود وعمّار -رضي الله تعالى عنهم- واحتجوا بما رواه مسلم من حديث ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص أنه كان يسلم تسليمتين: تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن يساره، بل ذكرهما الطحاوي من حديث ثلاثة عشر صحابيًا وزاد غيره سبعة، وأجابوا عن حديث عائشة بأنه معلول كما ذكره العُقيلي وابن عبد البر، وبأنه في قيام الليل والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شهدوه في الفرض والنفل. وحديث عائشة ليس صريحًا في الاقتصار على تسليمة واحدة بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة يوقظهم بها ولم تنفِ الأخرى؛ بل سكتت عنها وليس سكوتها عنها مقدمًا على رواية من حفظها وضبطها وهم أكثر عددًا وأحاديثهم أصح.

قلت: انظر كيف يصح هذا الكلام مع أن عائشة مصرحة في حديثها السابق بلفظ: "تسليمة واحدة" فأي صريح بعد لفظ واحدة؟ وأجاب مالك ومن معه عن حديث سعد بن أبي وقاص بأنه وهم، وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك بسنده عنه "أنه -صلى الله عليه وسلم- كانَ يسلِّمُ عن يمينِهِ ويسارِهِ". وهذا اللفظ ليس صريحًا في تسليمتين، بل معناه أنه كان يسلِّم تارة عن يمينه، وتارة عن شماله، أي غير ملتزم للسلام على اليمين كما يدل عليه حديث ابن مسعود الآتي في باب "الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال" فعلى هذا، لا يكون في الحديثين دليل على التسليمتين المذكورتين وفي

<<  <  ج: ص:  >  >>