واقعة عين لا عموم فيها فيحتمل اختصاصها بسليك لما رأى من بذاذته لتتفطن له الناس فتتصدق عليه.
ويدل على هذا التأويل حديث أبي سعيد الذي أخرجه أصحاب "السنن" وغيرهم "جاء رجل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب والرجل في هيئة بذة فقال له: أصليت؟ قال: لا، قال: صلِ ركعتين وحضِ الناس على الصدقة" الحديث، فأمره أن يصلي ليراه الناس وهو قائم فيتصدقون عَليه، ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئة بذة فأمرته أن يصلي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه" وعرف بهذه الرواية الرد على مَنْ طعن في هذا التأويل فقال: لو كان كذلك لقال لهم: إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا عليه أو إذا كان أحد ذا بذة فليقم فليركع حتى يتصدق الناس عليه، والذي يظهر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعتني في مثل هذا بالإجمال دون التفصيل كما كان يصنع عند المعاتبة.
ومما يضعف الاستدلال به أيضًا على جواز التحية في تلك الحالة أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس، وورد ما يؤكد الخصوصية أيضًا وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- لسليك في آخر الحديث:"لا تعودن لمثل هذا" أخرجه ابن حِبّان. وأجابوا عن هذا التأويل بأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه عليه الصلاة والسلام قصد التصدق عليه لا بمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجيزون التطوع لعلة التصدق.
وقال ابن المنير: لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة ولا قائل به.
قلت: هذا الجواب كله غفلة من قائله أما أن الأصل عدم الخصوصية فمحله عند عدم القرينة، وهنا قامت القرينة على الخصوصية بما تقدم من تصريحه عليه الصلاة والسلام بأنه أمره أن يصلي رجاء أن يفطن له رجل فيتصدق. وبقوله له:"لا تعودن لمثل هذا" وبما دل عليه الحديث الذي كاد أن يكون متواترًا "إذا قلت لصاحبك أنصت" إلخ فإذا منعه من الأمر بالمعروف الذي هو فرض في هذه الحالة فمنعه من إقامة السُّنة أو الاستحباب بطريق الأول، وإذا ثبتت الخصوصية لسليك بطل بديهة قول القائل المار: لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانع هو النهي الوارد عنها في هذا الوقت. والحديث لكونه خصوصية لا يعارض النهي لا يرفعه.
وقول الآخر:"لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس" إلخ فإن هذا خصوصية من الشارع والشارع لا يلزم بشيء والخصوصية لا يقاس عليها. وأجابوا أيضًا بأن أحمد وابن حِبّان أخرجا بأنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جُمع، وكان ذلك كما أخرجه النسائي وابن خزيمة بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبين فدخل بهما في الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. قالوا: فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة لا علة كاملة.