وفي "تفسير النسفي""بينا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ يومَ الجمعةِ إذ قَدمَ دحيةُ بنُ خليفةَ الكلبي ثم أحدُ بني الخزرج ثم أحدُ بني زيد بن مناة من الشام بتجارةٍ. وكان إذا قدمَ لم تبقَ بالمدينةِ عاتقٌ، وكان يقدمُ إذا قدمَ بكلِّ ما يحتاجُ إليه من دقيقٍ أو بُرٍّ وغيره، فنزلَ عند أحجارِ الزيتِ وهو مكان بسوق المدينةِ ثم يضربُ الطبلُ ليؤذنَ الناسَ بقدومِه فيخرجَ إليه الناسُ ليبتاعوا منه، فقدمَ ذاتَ يومِ جمعةٍ وكانَ ذلكَ قبلَ أن يسلمَ ورسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبرِ يخطبُ. فخرجَ إليهِ الناسُ فلم يبقَ في المسجدِ إلا اثنا عشر رجلًا وامرأةً، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لولا هؤلاء لقد سومتْ لهم الحجارةُ من السماءِ وأنزل اللهُ تعالى هذه الآية".
وقال في "الفتح": ذكر الحميدي في الجمع أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في آخر حديث جابر هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:"لو تتابعتم لم يبقَ منكم أحدٌ لسالَ بكُم الوادي نارًا". قال: وهذا لم أجده في الكتابين ولا في مستخرجي الإسماعيلي والبرقي.
قال صاحب "الفتح": لم أرَ هذه الزيادة في الأطراف لأبي مسعود ولا هي في شيء من طرق حديث جابر المذكورة وإنما وقعت في مرسل الحسن وقتادة وكذا في حديث ابن عباس عند ابن مردويه، وفي حديث أنس عند إسماعيل بن أبي زياد وسنده ساقط.
والنكتة في قوله، انفضوا إليها" دون قوله إليهما أو إليه أن اللهو لم يكن مقصودًا لذاته وإنما كان تبعًا للتجارة أو حذف لدلالة أحدهما على الآخر، وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهوًا انفضوا إليه أو أعيد الضمير إلى مصدر الفعل المتقدم وهو الرؤية. أي انفضوا إلى الرؤية الواقعة على التجارة أو اللهو والترديد للدلالة على أن منهم من انفض لمجرد سماع الطبل ورؤيته.
واستشكل الأصيلي حديث الباب فقال: إن الله تعالى وصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ثم أجاب باحتمال أن يكون هذا الحديث كان قبل نزول الآية. وهذا الذي يتعيّن المصير إليه مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه في الخطبة لا في الصلاة، وهو اللائق بالصحابة تحسينًا للظن بهم، وعلى تقدير أن يكون في الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهي كآية {لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وقبل النهي عن الفعل الكثير في الصلاة.
ولو ثبت قول مقاتل بن حيان الذي أخرجه أبو داود في المراسيل إن الصلاة كانت حينئذ قبل الخطبة، زال الإشكال لكنه مع شذوذه مفصل ولفظه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الجمعةَ قبلَ الخطبةِ مثلَ العيدين حتى كان يومَ جمعةٍ والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ وقد صلّى الجمعةَ فدخلَ رجلٌ فقالَ إنّ دحيةَ قدمَ بتجارتِه، وكان دحيةُ إذا قدم تلقاهُ أهلهُ بالدفوفِ فخرجَ الناسُ لم يظنوا إلا أنّه ليس في تركِ الخطبةِ شيء، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} فقدّمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-