صلاة المفترض قطعًا، وكأنه أراد أن تكون الترجمة شاملة لأحكام المصلي قاعدًا أو يتلقى ذلك من الأحاديث التي أوردها في الباب، فمَنْ صلّى فرضًا قاعدًا، وكان يشق عليه القيام أجزاه، وكأنَّ هو ومَنْ صلّى قائمًا سواء. كما دل عليه حديث أنس وعائشة، فلو تحامل هذا المعذور وتكلف القيام، ولو شق عليه كان أفضل؛ لمزيد أجر تكلف القيام، فلا يمتنع أن يكون أجره على أصل الصلاة فيصح أن أجر القاعد على النصف من أجر القائم، بغير إشكال، وأما قول الباجي: إن الحديث في المفترض والمتنفل معًا، فإن أراد بالمفترض ما قررناه فذاك، وإلا فقد أبى ذلك أكثر العلماء. وحكى ابن التين وغيره عن أبي عبيد وابن الماجشون وإسماعيل القاضي وابن شعبان والإسماعيلي والداودي وغيرهم أنهم حملوا حديث عمران على المتنفل القادر، وكذا نقله الترمذي عن الثوري قال: وأما المعذور إذا صلّى جالسًا فله أجر القائم.
قال: وفي هذا الحديث ما يشهد له، يشير إلى ما أخرجه البخاري في "الجهاد" من حديث أبي موسى رفعه: "إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كُتِبَ له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم". ويشهد لهذا الحديث ما أخرجه عبد الرزاق وأحمد، وصححه الحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا:"إنَّ العبد إذا كان على طريقةٍ حَسَنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقًا حتى أطلقه أو أكفته إلى". ولأحمد عن أنس رفعه:"إذا ابتلى الله العبدَ المسلمَ ببلاءٍ في جسده قال الله: اكتب له صالحَ عَمله الذي كانَ يَعمَله فإنْ شفاهُ غَسلهُ وطهره وإنْ قَبَضَهُ غفَر له وَرَحِمَه". وللطبراني عن أبي موسى:"أنَّ الله يكتبُ للمريض أفضلَ ما كان يعمل في صحتهِ ما دام في وثاقِهِ". وعند النسائي من حديث عائشة:"ما من امريءٍ تَكونُ لهُ صلاة من الليلِ يغلبه عليها نومٌ أو وجع إلاَّ كُتبَ له أجْرُ صَلاتِه، وكان نَومُه عَليه صَدَقةٌ".
ويؤيد ذلك قاعدة تغليب فضل الله تعالى وقبول عذر من له عذر، ولا يلزم من اقتصار العلماء المذكورين في حمل الحديث المذكور على صلاة النافلة أن لا ترد الصورة التي ذكرها الخطابي. وقد ورد في الحديث ما يشهد لها فعند أحمد عن ابن جريج عن ابن شهاب عن أنس قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهي محمة فحمى الناس فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد والناس يصلون من قعود فقال:"صلاةُ القاعدِ نِصفُ صَلاةِ القائمِ".
رجاله ثقات، وعند النسائي متابع له من وجه آخر، وهو وارد في المعذور، فيحمل على مَنْ تكلف القيام مع مشقته عليه، كما بحثه الخطابي. وأمّا نفي الخطابي جواز التنفل مضطجعًا، فقد تبعه ابن بطال على ذلك وزاد، لكن الخلاف ثابت. فقد نقله الترمذي بإسناده إلى الحسن البصري قال: إنْ شاء الرجل صلّى صلاة التطوع قائمًا وجالسًا ومضطجعًا. وقال به جماعة من أهل العلم. وهو أحد الوجهين للشافعية، وصححه المتأخرون. وحكى القاضي عياض في الإِكمال عن المالكية فيه ثلاثة أوجه: الجواز مطلقًا في الاختيار والاضطرار للصحيح والمريض، لظاهر الحديث، وهو الذي صَدّر به القاضي كلامه. والثاني: منعه مطلقًا لهما إذْ ليس في هيئة الصلاة.