للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متفاوتون، فمنهم من أخذ تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقًا في الشهوات، محجوبًا في الغَفَلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذُكِر النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته، بحيثُ يؤثِرُها على أهله وولدِهِ ووالدهِ ومالِه ويبذُل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجدُ مخبر ذلك من نفسه وُجدانًا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره الشريف ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر لما وَقَر في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغَفَلات، وأيضًا المحبة، إما اعتقاد النفع أو ميل يتبع ذلك أو صفة مخصصة لأحد الطرفين بالوقوع، ثم الميل قد يكون لما يَسْتَلِذُّه بحواسه كحسن الصورة، ولما يستلذه بعقله كحب الفضل والجمال، وقد يكون لإِحسانه إليه، ودفع المَضارِّ عنه، ولا يَخْفى أن المعاني الثلاثة كلها موجودة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال أنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعيم، ولا شَكَّ أن الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين لو كانت فيهما، فيجب كونه أحب منهما، لأن المحبة ثابتة لذلك، حاصلة بحسبها، كاملة بكمالها، ومحبته عليه الصلاة والسلام هي إرادة طاعته، وترك مخالفته، وهي من واجبات الإِسلام. وجعل القاضي عِياض معنى المحبة: التعظيم والإِجلال، فجعلها شرطًا في صحة الإِيمان، وتَعَقَّبَه القُرطبيّ قائلًا: إن ذلك ليس مرادًا هنا، لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة التي هي الميل على ما مر، إذ قد يجد الإِنسان إعظام شيءٍ مع خلوه من محبته، قال: فَعَلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يَكْمُل إيمانه، وإلى هذا يُومىءُ قول عمر الذي رواه البخاري في الأيْمان والنذور عن عبد الله بن هشام، أن عُمر رضي الله تعالى عنه قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لَأنْتَ يا رسولَ الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا، والّذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنك والله الآن أحب إلي من نفسي، فقال: "الآن يا عمر".

<<  <  ج: ص:  >  >>