وقوله:"فاقدُره لي" بضم الدال وبكسرها، قال الكرمانيّ: معناه اجعله مقدورًا لي أو قدره. وقيل: معناه يسره، قال القرافيّ في "أنوار البروق": من الدعاء المحرم الدعاء المرتب على استئناف المشيئة، كمن يقول: اقدر لي الخير؛ لأن الدعاء بوضعه اللغويّ إنما يتناول المستقبل دون الماضي؛ لأنه طلب، وطلب الماضي محال، فيكون مقتضى هذا الدعاء أن يقع تقدير الله في المستقبل من الزمان، والله تعالى يستحيل عليه استئناف المشيئة والتقدير، بل وقع جميعه في الأزل، فيكون هذا الدعاء مقتضى مذهب مَنْ يرى أن لا قضاء، وأن الأمر أنُفٌ، كما أخرجه مسلم عن الخوارج، وهو فسق بالإِجماع. وحينئذ فيجاب عن قوله هنا:"فاقدره لي" بأن يتعين أن يعتقد أن المرادَ بالتقدير هنا التيسيرُ على سبيل المجاز والداعي إنما أراد هذا المجاز، وإنما يحرم الإطلاق عند عدم النية.
قلت: ما قاله القرافيّ، وإن كان ما وجهه به ظاهرًا، كيف يجوز أو يصح أن يقال بتحريمه مع تصريح الشارع به؟ وتعليمه لأصحابه في الأحاديث الصحيحة ولم يأمرهم بنية شيء؟ فكان الأولى له أن يقول: إنه من ألفاظ المتشابه، وكونه من المتشابه لا يوجب تحريم الدعاء به.
وقوله:"ثم بارك لي فيه" أي أدمه وضاعفه. وقوله:"فاصرفه عني، واصرفني عنه" أي: حتى لا يبقى قلبه بعد صرف الأمر عنه متعلقًا به، ولم يكتف بقوله:"فاصرفه عني"؛ لأنه قد يصرف الله تعالى عن المستخير ذلك الأمر، ولا يصرف قلبه عنه، بل يبقى متعلقاً متشوفًا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطر، فإذا صرفه الله، وأصرفه هو عنه، كان ذلك أكمل.
وفيه دليل لأهل السنة أن الشر من تقدير الله على العبد؛ لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه، ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه. وقوله:"واقدر لي الخير حيث كان" في حديث أبي سعيد بعد قوله: "واقدر لي الخير أينما كان، لا حول ولا قوة إلا بالله" وقوله: "ثم رضنّي به" بالتشديد، وفي رواية قُتيبة هنا "ثم أَرْضِنِي به" بهمزة قطع أي: اجعلني به راضيًا، وفي بعض طرق حديث ابن مسعود عند الطبرانيّ في الأوسط "ورضنَّي بقضائك" وفي حديث أبي أيوب: "ورضّني بقدرتك" والسر فيه أن لا يبقى قلبه متعلقًا به، فلا يطمئن خاطره، والرضى سكون النفس إلى القضاء. وفي الحديث شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أُمته، وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وفي بعض طرقه عند الطبرانيّ في حديث ابن مسعود أنه -صلى الله عليه وسلم-، كان يدعو بهذا الدعاء إذا أراد أن يصنع أمرًا. وفيه أن العبد لا يكون قادرًا إلاَّ مع الفعل لا قبله، والله خالق العلم بالشيء للعبد، وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله تعالى، والتَّبَرُّؤ من الحول والقوة إليه، وأن يسأل ربه في أموره كلها. واستدل به على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده؛ لأنه لو كان كذلك لاكتفى بقوله:"إن كنت تعلم أنه خيرٌ لي" عن قوله: "وإن كنت تعلم أنه شرٌ لي" إلخ؛ لأنه إذا لم يكن خيرًا فهو شر. وفيه نظر لاحتمال وجود الواسطة، قاله في "الفتح".
قلت: الخير والشر ضدّان ولا واسطة بينهما، والخلاف في المسألة شهير عند أهل الأُصول.