إلاَّ إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكان، بل إلى مَنْ في المكان.
وقوله: لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، أي إلا بدليل؛ لأن ذلك هو الأصل في الاستثناء، وإخراج الكلام عن أصله لابد له من دليل، فإذا قلت مثلًا: ما رأيت إلا زيدًا فتقدير الكلام ما رأيت أحدًا أو رجلًا إلاَّ زيدًا، لا ما رأيت شيئًا أو حيوانًا إلاَّ زيدًا. وإذا كان الخروج عن الأصل لا يمكن إلا بدليل، فما بالك إذا كان الأصل معتضدًا بأقوى دليل؟ وهو ما رواه أحمد في مسنده عن أبي سعيد، مرفوعًا بإسناد حسن، وقد ذكرت عنده الصلاة في الطور، فقال: قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينبغي للمَطِيّ أن تُشَدَّ رحالها إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام أو المسجد الأقصى ومسجدي هذا" ففي هذا الحديث النصُّ على المستثنى منه المحذوف في غيره، وأنه مسجد، وفيه بيان أن الصحابيّ ذكره عندما ذكرت له الصلاة في الطور لا عند الإتيان للطور للتبرك بآثار الصالحين، فكان في غاية التفسير للمحذوف في غيره، وخير ما فسر به الوحي الوحي، فما بعد هذا الحديث مقال لملبس أومدلِّس.
وإذا قال مجيب عن ابن تيمية فيما أورد عليه على تقدير المستثنى منه عامَّاً، من تناوله للمسائل المذكورة، التي لا يتصور عند العوام منعها، فضلًا عن العلماء -إن ما أورد على تقدير المستثنى منه عامًّا خارجٌ عن العموم بأدلة خارجة نصت على إباحته أو طلبه- قيل له: إن زيارته عليه الصلاة والسلام خارجة منه، بدليل الكتاب والسنة والإجماع، لما أوضحناه في كتابنا "الفتوحات الربانية" فما قاله في غيرها فليقله فيها، وكذلك زيارة غيره، عليه الصلاة والسلام، من قبور الصالحين، خارجة بما ورد من الأحاديث المصرحة بالأمر بها مما جلبناه في الكتاب المذكور، ومما هو صريح في إبطال ما قال من منع شد الرحال إليه عليه الصلاة والسلام، هو أن هذه المساجد الثلاثة معلوم عند جميع المسلمين ما حصل به الشرف لكل واحد منها، فالمسجد الحرام حصل له الشرف بكونه قبلة المسلمين إليه حجهم، والمسجد الأقصى شرف بكونه كان قبلة الأمم السالفة، ومسجده عليه الصلاة والسلام شرف بتأسيسه على التقوى، ومعلوم أن محله كان مقبرة للمشركين، فاشتراه، عليه الصلاة والسلام، ونبش عظامهم من ذلك، وبنى فيه المسجد، فما حصل له شرف إلا منه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يعلمه من هو أقل علمًا من ابن تيمية، فكيف يقول عالم بهذا: إن الرحال تُشد إلى محل شُرِّف بغيره، ولا تُشد إلى من شرف به ذلك المحل؟ فهذا لا يمكن صدوره إلا من ناقص العقل مع الدين، فلو قدرنا تقديرًا فاسدًا؛ أن المستثنى منه عامّ، كان شد الرحال لزيارته عليه الصلاة والسلام مفهومًا من شدها إلى الثلاثة بالأَوْلى، للإجماع القائم على فضله -صلى الله عليه وسلم- على سائر المخلوقات، وفضل البقعة الضّامّة لأعضائه الشريفة على سائر البقاع، كما يأتي في الحديث الذي بعد هذا.