قال في "الفتح": من جملة ما استدل به ابن تيمية على دفع ما ادّعاه غيرُه من الإجماع على مشروعية زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم-، ما نُقِل عن مالك أن كره أن يقول: زرت قبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ، أدبًا، لا أصل الزيارة، فإنها من أفضل الأعمال، وأجل القُرُبات الموصّلة إلى ذي الجلال، وإن مشروعيَّتها محل إجماع بلا نزاع. وقيل: كره هذا اللفظ لأن الزيارة مَنْ شاء فعلها ومَنْ شاء تركها، وهي كالواجب عنده، وقيل: إنما كره إضافة الزيارة للقبر، فلو قال: زرنا النبي عليه الصلاة والسلام لم يكره عنده، وهذا مردود بما نقله ابن رُشْد وغيره: أنه كره هذا أيضًا، وقيل: كرهه لأنّ المضيّ إلى قبره -صلى الله عليه وسلم- ليس ليصله بذلك، وينفعه به، وإنما هو رغبة في الثواب. قال السّبْكي: وهذا هو المختار في تأويل كلام مالك، ومع ذلك لا نُسَلِّم أنَّ "زرنا النبي -صلى الله عليه وسلم-" يُوهم ذلك؛ لأن كل مسلم يعلم جلالته -صلى الله عليه وسلم-، وأن كل أحد من أمته، وإن جلت مرتبته، مفتقر إلى التبرك به، والمثول بين يديه عليه الصلاة والسلام، لكن لكون مذهب مالك، رضي الله تعالى عنه، مبنيًا على سد الذرائع، لا يمنع عنده العلم بهذا من جملة الناس، كراهيةَ إطلاق اللفظ لهذا المعنى، لكثرة الجهل وفُشُوّه. وقيل غير هذا. وعلى كل حال. ما قاله مالك لا تشم منه رائحة منع الزيارة حتى يستدل به ابن تيمية على مقالته الشنيعة، ومناظرة الإِمام مالك لأبي جعفر المنصور كافية في مطلوبيّة الزيارة عنده، وتأتي زيادة في حديث مسجد قباء.
وقوله:"المسجد الحرام" أي: المحرم، وهو كقولهم الكتاب بمعنى المكتوب، والمسجدِ، بالخفض على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف، والمراد جميع الحرم. وقيل: يختص بالموضع الذي يصلى فيه، دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم. قال الطبريّ: ويتأيّد بقوله: "مسجدي هذا" لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة، فينبغي أن يكون المستثنى معه كذلك. وقيل: المراد به الكعبة، حكاه المُحِبُّ الطبريّ، وذكر أنه يتأيّد بما رواه النَّسَائيّ بلفظ:"إلاَّ الكعبة" وفيه نظر؛ لأن الذي عند النَّسائيّ:"إلا مسجد الكعبة"، حتى لو سقطت لفظة مسجد، لكانت مرادة، ويؤيد الأول ما رواه الطيالسيّ عن عطاء أنه قيل له:"هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم؛ لأنه كله مسجد".
وقوله:"ومسجد الرسول" أي: محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفي العدول عن مسجدي إشارة إلى التعظيم، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة، ويؤيده قوله في حديث أبي سعيد الاتي قريبًا "ومسجدي" وروى أحمد بإسنادٍ رواتُهُ رواةُ الصحيح عن أنس مرفوعًا "مَنْ صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبراءة من النفاق".
وقوله:"ومسجد الأقصى" بيت المقدس، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة عند الكوفيين، والبصريون يؤوِّلونه بإضمار، أيْ: ومسجد المكان الأقصى. وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل في الزمان، وفيه نظر؛ لأنه ثبت في الصحيح أن بينهما أربعين سنة، وقد استشكل من حيث إن بين آدم وداود عليهما الصلاة والسلام أضعاف ذلك من الزمن، وأُجيبَ