بأنَّ الملائكة وضعتهما أولًا، بينهما في الوضع أربعون سنة، وأن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام جَددوا بنيان المسجد الأقصى، كما جدد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام. ويأتي في ترجمة إبراهيم الخليل من أحاديث الأنبياء استيفاء الكلام على هذا.
وقال الزمخشريّ: المسجد الأقصى بيت المقدس؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل: لبعده عن الخبث والأقذار، وقيل: هو قَصِيّ بالنسبة إلى مسجد المدينة؛ لأنه بعيد من مكة، وبيت المقدس أبعد منه. وقيل: لأنه أقصى موضع من الأرض ارتفاعاً وقربًا إلى السماء.
ولبيت المقدس عدة أسماء تَقْرُب من العشرين، منها إيلياء بالمد والقصر، وبحذف الياء الأولى، وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث، وبيت المقدس، بسكون القاف، وبفتحها مع التشديد، والقُدس بغير ميم مع ضم القاف وسكون الدال، وبضمها أيضًا، وشَلّم بالمعجمة وتشديد اللام، وبالمهملة، وشلام بمعجمة، وسَلِم بفتح المهملة وكسر اللام الخفيفة، وأَوْرِي سلم بسكون الواو وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة. قال الأعشى:
وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها، لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأوَّل قبلة الناس، وإليه حجهم إلى آخر ما مرّ. واختلف في شد الرحال إلى غيرها، كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياءاً وأمواتًا، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، فقال أبو محمد الجُوَيْنِيّ: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملًا بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، ويه قال عِياضُ وطائفة. ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار نَضْرَة الغِفارِيّ على أبي هريرة خروجه إلى الطُّور، وقال له: لو أدركت قبل أن تخرج ما خرجت، واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة، والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها أن المراد أن الفضيلة التَّامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد، بخلاف غيرها، فإنه جائز. وفي رواية أحمد الماضية "لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد إلخ" وهذا لفظ ظاهر في غير التحريم.
ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة، فإنه لا يجب الوفاء به، قاله ابن بَطّال. وقال الخطابيّ: اللفظ لفظ الخبر، ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها، أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة. ومنها أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب،