وقد جاءت أحاديث كثيرة دالّة على تفضيل المدينة، منها ما أخرجه مسلم:"يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه، هَلُمّ إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده، لا يخرج أحد رغبة عنها إلاَّ أَخلف الله فيها خيرًا منها". ففي الحديث الذم لمن خرج منها إلى أي محل كان من غير تقييد بمكة، وحكى المحبُّ الطبريّ عن قوم أنه عامٌّ أبدًا مطلقًا. قال: وهو ظاهر اللفظ، ومنها ما أخرجه مسلم عن أبي هُريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"لا يصبر على لْأواءِ المدينة وشدتها أحدٌ من أمتي إلا كنت له شفيعًا يوم القيامة" أو "شهيدًا".
وفيه عن سعيد مولى المَهَرِيّ أنه جاء إلى أبي سعيد الخُدريّ ليالي الحَرَّة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكى إليه أسعارها، وكثرة عياله، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال: ويحك، لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:"لا يصبر أحد على لأوائها إلاَّ كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة" واللأواء، بالمد، الشدةُ والجوع. وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين، أو للعالمين في القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله علوُّ مرتبة وزيادةُ منزلةٍ وحُظوةٍ، وهذه الشفاعة لأهل المدينة تكون بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات، ككونهم على منابر، أو في ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص الكرامات.
ومنها ما أخرجه البخاريّ عن أبي هُريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"إنّ الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها" أي: ينقبضِ وينضم ويلتجىء، مع أنها أصلُ في انتشاره. ومنها ما أخرجه التِّرْمِذِيّ وابن ماجه وابن حِبّان في صحيحه عن ابن عُمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: مَنْ استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها"، ورواه الطبرانيّ في الكبير عن سُبَيعة الأسلمية، إلى غير هذا من الأحاديث.
وقد ذكر الشِّهاب الخَفَاجِيّ بحثًا حق له أن يكتب بماء الذهب، ولفظه هاهنا "بحث"، وهو أن البقعة التي ضمت الجسد العظيم، إذا كانت أفضل من سائر البقاع، يلزم أن تكون المدينة أفضل من مكة بلا نزاع؛ لأن المدينة هي تلك البقعة، مع زيادة، وزيادة الخير خير، فكيف يُتَصَوَّر الخلاف بينهم على هذا؟ بل نقول: المدينةُ بعد هجرته -صلى الله عليه وسلم- إليها، وإقامته بها، تَفْضُلُ مكةَ حينئذ، لأن شرف المكان بالمكين، فلابد من تحرير الخلاف حتى يقام عليه الدليل. منه وإيضاح هذا البحث هو أن المذاهب، إذا سلّموا أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل من الكعبة التي شُرِّفت مكة بسببها، كيف يقولون إن مكة أفضل من المدينة؟ فإن الكعبة صارت مفضولة، ومعلوم عند كل أحد أن التابع للأفضل أفضل من تابع المفضول، ولهذا كانت أصحابه -صلى الله عليه وسلم- أفضل من أصحاب غيره من الأنبياء، لفضله هو عليه الصلاة والسلام على غيره من الأنبياء عليهم السلام.