ابن عساكر والباجيّ والقاضي عياض، بل نقل تاج الدين السّبكيّ كما ذكره السيد السَّمهودِيّ عن ابن عُقيل الحنبليّ أنه أفضل من العرش. وصرّح الفاكهانيّ بتفضيلها على السموات، فقال، وأنا أقول: هي أفضل من بقاع السموات أيضًا. وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطىء قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها بكونه عليه الصلاة والسلام حالاًّ فيها لم يبعد، بل هو المتعيِّن عندي. وحكاه بعضهم عن الأكثرين، لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها. لكنْ قال النوويّ: الجمهور على تفضيل السماء على الأرض ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة، وقد استشكل ما ذكر من الإجماع على أفضلية ما ضم أعضاءه الشريفة، بأن أفضلية الأماكن والأزمان إنما تكون بكثرة الثواب على الأعمال، ولا عمل على القبر، والجواب أن هذا ممنوع، ويلزمه أن لا يكون جلد المصحف بل المصحف مفضلًا، وبطلانه معلوم من الدين.
وتعقبه تقي الدين السبكيّ بما حاصله أنّ الذي قيل لا ينفي أن يكون التفضيل لأمر آخر فيها، وإن لم يكن عملًا لأن قبره عليه الصلاة والسلام ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا؛ لأنه ليس مسجدًا، ولا له حكم المسجد. بل هو مستحق للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأيضًا قد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حي كما تقرر، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن، ففضل البقعة باعتبارين، أحدهما ما قيل، أن كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه كما مرّ، والثاني تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال الله تعالى، ولا نسلّم أن الفضل للمكان لذاته، ولكن لأجل من حلّ فيه -صلى الله عليه وسلم-.
وقد استنبط العارف ابن أبي جَمرة من قوله عليه الصلاة والسلام المروي في البخاريّ "ليس من بلد إلاَّ سيطؤه الدَّجَال إلاَّ مكة والمدينة" التساويّ بينهما. قال: ظاهر هذا الحديث يعطي التسوية بينهما في الفضل؛ لأن جميع الأرض يطؤها الدّجّال إلا هذين البلدين، فدل على تسويتهما في الفضل. قال: ويؤيد ذلك أيضًا من وجه النظر أنه إن كانت المدينة خصت بمدفنه عليه الصلاة والسلام، وإقامته بها، ومسجده، فقد خصت مكة بمسقطه عليه الصلاة والسلام بها، ومبعثه، وهي قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة مكة، ومغربها المديها، وإقامته بعد النبوءة بمكة مثل إقامته بالمدينة، عشر سنين في كل واحدة منهما على قول. قلت: قد عُوّضت المدينة عن العُمرة ما صح في إتيان مسجد قُباء مما يأتي، وعن الحج ما جاء في فضل الزيارة النبوية والإقامة بالمدينة بعد النبوة، وإن كانت أقل من مكة على المشهور، فقد كانت سببًا لإعزاز الدين وإظهاره ونزول أكثر الفرائض، وإكمال الدين حتى كثر تردد جبريل عليه الصلاة والسلام بها، ثم استقر بها -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة، ولهذا قيل لمالك: أيُّما أحب إليك المقام بالمدينة أو مكة؟ فقال: هاهنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجبريل ينزل عليه من رب العالمين في أقل من ساعة؟