للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القاضي عبد الوهاب: لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلا رجوح فضلها على القرى، وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك غلبة فضلها على فضل غيرها، أي: أن الفضائل تضمحلّ في جنب عظيم فضلها، حتى تكون عَدَمًا، وهذا أبلغ من تسمية مكة أم القرى؛ لأن الأُمومة لا ينمحي معها ما هي له أُم، لكن يكون لها حق الأمومة. ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى، والأقرب حمله عليهما، وهو أبلغ في الفرض المسوق له.

واستدلوا أيضًا بما رواه أبو يعلى عن أبي بكر الصديق أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقبض النبي إلا في أحبّ الأمكنة إليه" ولا شك أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى، فإن حبه تابع لحب ربه جل وعلا، وما كان أحب إلى الله ورسوله فكيف لا يكون أفضل؟

وقد قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن إبراهيم دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة، ومثله معه،، ولا ريب أن دعاء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أفضل من دعاء إبراهيم؛ لأن فضل الدعاء على فضل قدر الداعي، وقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللَّهمَّ حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" وفي رواية: "بل أشد" وقد أُجيبتْ دعوته حتى كان يحرك دابته، إذا رآها، من حبها.

وروى الحاكم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "اللَّهمّ إنك أخرجتني من أحب البلاد إليّ فأسكنيّ في أحب البقاع إليك" أي: في بلد تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان. وقد قيل: إن ابن عبد البر ضعَّفه، وإنه لو سلمت صحته، فالمراد أحب إليك بعد مكة، لحديث: "إن مكة خير بلاد الله". وفي رواية: "أحب أرض الله إلى الله" ولزيادة التضعيف بمسجد مكة، وتعقب هذا المسهوديّ بأن ما ذكره لا يقتضي صرفه عن ظاهره، إذ القصد به الدعاء لدار هجرته، بأن يصيرها الله كذلك، وحديث: "إن مكة خير بلاد الله" محمول على بدء الأمر إلى آخر ما مر.

قلت: كيف يصح تضعيف هذا الحديث مع ما صح من دعائه عليه الصلاة والسلام: "أن تكون المدينة أحب إليه"؟ وقد مرّ قريبًا أن حبه تابع لحب ربه، فلا معنى لتضعيفه. وروى الطبرانيّ: المدينة خيرٌ من مكة، وفي رواية للجنديّ: "أفضل من مكة" وفيه محمد بن عبد الرحمن الرداد، وقد تكلم فيه، واستدلوا أيضًا بما رواه ابن عبد البَرّ في آخر تمهيده عن عطاء الخراسانيّ موقوفًا "أن المرء يدفن في البقعة التي أُخذ منها ترابُه عندما يخلق، فتكون هذه البقعة أشرف البقاع لشرف من خلق منها.

وروى الزبير بن بكّار أنّ جبريل أخذ التراب التي خلق منها النبي -صلى الله عليه وسلم- من تراب الكعبة. قال الناصرون لتفضيل مكة: فعلى هذا فالبقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة من تراب الكعبة، فيرجع لفضل المذكور إلى مكة إن صح ذلك. قلت: هذا لا دليل فيه لما قالوا، بل عليه تكون البقعة جمعت فضل الكعبة ومكة، لكونها من الكعبة وحلت بالمدينة، وقد أجمعوا على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة عليه الصلاة والسلام، أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة. كما قاله

<<  <  ج: ص:  >  >>