فلا ينبغي العدول عنه. قلت: أجيب عن هذا الحديث بما قاله السَّمْهُوديّ بأن ذلك محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدين وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابةُ دعوته وصيرورتها أحب مطلقًا، ولهذا افترض الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- الإقامة بها، وحث هو -صلى الله عليه وسلم- على الاقتداء به في سكناها، والموت بها، فكيف لا تكون أفضل؟
واستدل القائلون بتفضيل المدينة بحديث البخاريّ "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" مع قوله: "موضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها"، وقول ابن عبد البر: هذا استدلال بالخبر في غير ما ورد فيه، ولا يقاوم النص الوارد في فضل مكة تحامل منه بعيد من الصواب، فإن الحديث نص في تفضيل المدينة؛ لأن معنى الحديث كما قال ابن أبي جَمرة وغيرها: أنها تنقل تلك البقعة بعينها في الجنة، فتكون روضة من رياض الجنة. وأنَّ العمل فيها يوجب لصاحبه روضة من رياض الجنة؛ لأن البقع المباركة والأيام المباركة ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا، إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضًا، وإنما كانت هكذا لعلو منزلته عليه الصلاة والسلام، فلما خص الخليل عليه الصلاة والسلام بالحجر من الجنة، خص الحبيب عليه الصلاة والسلام بالروضة من الجنة.
واستدل المفضلون لمكة بما مرّ من المضاعفة في حديث ابن الزبير وجابر، وأجاب عنه القَرَافيّ وغيره بأنَّ سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل، بل قد يكون لغيرها كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود. قال السمهودي: فالصلوات الخمس، بمنىً للمتوجه لعرفة، أفضل منها بمسجد مكة. وإنْ انتفت عنها المضاعفة إذ في الاتباع ما يربو عليها، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة. قال: ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة تفضيلَ مكة، إذ غايته أن للمفضول مزية ليس للفاضل، مع أن دعاءه -صلى الله عليه وسلم- بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شاملٌ للأمور الدينية أيضًا، وقد يبارك في العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة.
وإن أُريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب أنَّ الكلام فيما عداها، فلا يرد شيء مما جاء في فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك، لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عيّاش المخزوميّ: أنت القائل لَمَكَّة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته. فقال عمر: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا. ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له عمر:"لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا" فأشير إلى عبد الله فانصرف.
واستدل المفضلون للمدينة بما في الصحيحين عن أبي هريرة من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أُمرتُ بقرية تأكل القرى" يقولون: يثرب، وهي المدينة تنفي الناس كما ينفى الكِيْرُ خَبَثَ الحديد، أي: أمرني الله بالهجرة إليها إن كان قاله، عليه الصلاة والسلام، بمكة. أو بسكناها، إن كان قاله بالمدينة. قال