للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح, لأن المريض الصَّفراوِيَّ يجد طعم العسل مُرًّا، والصحيح يَذُوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما نقص ذَوْقُه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يُقَوّي استدلال المصنف على زيادة الإِيمان ونقصانه.

وقوله: "أحب إليه" منصوب خبر يكون، قال البيضاوي المراد بالحب هنا الحب العَقْلي، الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يَعاف الدواء بطبعه، فينفِر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله، فيهوى تناوله.

قلت: وهذا هو المعبر عنه فيما مرّ بالحب الاختياري، ثم قال: فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا يَنْهى إلا بما فيه صلاح عاجل، أو خلاص آجل، والعقل يَقْتضي رجحان ذلك، تمرن على الائتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذ بذلك التذاذًا عقليًّا، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة، لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة، قال: وإنما جعل هذه الأمور عنوانًا لكمال الإِيمان , لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانِع في الحقيقة سواه، وأنَّ ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحبُّ إلا ما يُحِبّ، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقن أن جملة ما وعدوا وعد حق يقينًا ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العَوْد إلى الكفر إلقاء في النار، وشاهد الحديث من القرآن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: ٢٤] ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله: {فَتَرَبَّصُوا} [التوبة: ٢٤] ومحبة العبد لله تعالى تحصل بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك الرسول، وكل من المحبتين على قسمين: فرض وندب، وهما متلازمتان، لا تحصُلُ إحداهما دون الأخرى، فالغرض فيهما هو المحبة التي تَبْعث على امتثال الأوامر،

<<  <  ج: ص:  >  >>