أشفيت منه على الموت" واتفق أصحاب الزهريّ على أن ذلك كان في حجة الوداع، إلاَّ ابن عُيينة فقال في فتح مكة. أخرجه التِّرمذيُّ عنه، واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه. وقد أخرجه البخاريّ في الفرائض عنه، فقال بمكة، ولم يذكر الفتح.
ومستند ابن عُيينة هو ما أخرجه أحمد والبزّار والطبرانيّ والبخاريّ في التاريخ, وابن سعد عن عمرو بن القاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قدم فخلف سعدًا مريضًا حين خرج إلى حُنين، فلما قدم من الجُعْرانة معتمرًا، دخل عليه، وهو مغلوب، فقال: يا رسول الله، إنّ لي مالًا وإني أُوْرَث كلالة، أَفأُوصي بمالي .. " الحديث، وفيه قلت: يا رسول الله، أمَيِّتٌ أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرًا؟ قال: "لا، إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينتفع بك أقوام" الحديث، فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث.
ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين، مرة عام الفتح، ومرة عام حجة الوداع، ففي الأُولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلًا، وفي الثانية كانت له بنت. وقوله: فقلت إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلاَّ ابنة، فقوله: وأنا ذو مال، نحوه في رواية عائشة بنت سعد في الطب، وهذا اللفظ يؤذن بمال كثير، وذو المال إذا تصدق بثلثيه أو بشطره وأبقى ثلثه بَيْن بنته وغيرها لا يصيرون عالة، لكن الجواب أن ذلك خرج على التقدير, لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير، وإلاّ فلو تصدق المريض بثلثيه مثلًا، ثم طالت حياته، ونقص وفني المال، فقد تجحفت الوصية بالورثة، فرد الشارع الأمر إلى شيء معتدل، وهو الثلث.
وقوله: ولا يرثني إلاَّ ابنة، في رواية الوصايا "ولم يكن له يومئذ إلا ابنة" قال النووي وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواصّ الورثة أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصباتٌ لأنه من بني زُهرة، وكانوا كثيرًا. وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفُروض، أو خَصَّها بالذكر على تقدير "لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلاّ هي" أو ظن أنها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التركة.
وهذه البنت زعم بعض العلماء أنها عائشة، فإن كان محفوظًا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث في الطب، فإنها تابعيّة عُمِّرَتْ حتى أدركها مالك وروى عنها, لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بنتًا تسمى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى، وأمها بنت شِهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة، وذكروا له بنات أخرى أمهاتهنّ متأخرات الإِسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أن البنت المشار إليها أم الحكم المذكورة، لتقدم تزويج سعد بأمها. قال في الفتح: ولم أر من حرر هذا.