المقام بمكة إلى الوفاة، فيكون قادحًا في هجرته، كما نص عليه في بعض الروايات كما يأتي، إذ قال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، فأجابه عليه الصلاة والسلام بأنّ ذلك لا يكون، وأنه يطول عمره.
وفي رواية الوصايا "وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها" وهذه الجملة يحتمل أن تكون حالًا من الفاعل في قوله قبله "جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يعودني" أو من المفعول في "يعودني" وكل منهما محتمل, لأن كلًا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن سعد، كان يكره ذلك، لكن إن كان حالًا من المفعول، وهو سعد، ففيه التفات, لأن السياق يقتضي أن يقول: وأنا أكره.
وقد أخرجه مسلم عن ثلاثة من ولد سعد عن سعد، بلفظ "فقال: يا رسول الله، خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة" وسبب كراهيتهم للموت في دار الهجرة هو أن المهاجر من مكة رخص في إقامة ثلاث ليال بمكة بعد الصَّدر، أي الرجوع من مني، كما أخرجه البخاريّ في الهجرة إلى المدينة، ويحرم على المهاجر منها قبل الفتح أزيد من ثلاث ليال فيها. واستنبط من هذا أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر، وقيد الداوديّ اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، ولا معنى لتقييده بالأولين.
وقال النّوويّ: معنى الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة، وحكى عِياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة بعد فتح مكة، فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه. قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سُكْنى المدينة كان واجبًا، لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي بلد أرادوا سواء مكة وغيرها، ويستثنى من ذلك من أذن له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإقامة في غير المدينة.
وقال القرطبيّ: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصر النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يعني به من هاجر من غيرها, لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لما تَحَرَّجُوا من الإقامة بمكة، إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة.
والخلاف الذي أشار له عياض: هل ينبني عليه الخلاف فيمن فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه، فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال إن كان تركَها لله، كما فعله المهاجرون، فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فرارًا بدينه ليَسْلَم له، ولم يقصد إلى تركها لذاتها، فله الرجوع إلى ذلك، وهو حسن متجه، إلا أنه خَص ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك.