وقد استوفيت الكلام على أحكام الهجرة عند حديث إنما الأعمال بالنيات، وقوله: ثم لعلك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوام، ويضرَّ بك أخرون، وفي رواية الوصايا "وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس، ويضر بك آخرون" فمعنى قوله "ولعلك أن تخلف، وعسى الله أن يرفعك" يطيل عمرك، وكذلك حصل، فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة، بل قريبًا من خمسين, لأنه مات سنة خمس وخمسين، وقيل سنة ثمان وخمسين، وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين أو ثمانيًا وأربعين.
وقوله: فينتفع بك أقوام، أي: ينتفع بك المسلمون من الغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك، ويُضَرَّ بك المشركون الذين يهلكون على يديك. وزعم ابن التين أن المراد بالنفع به ما وقع من الفتوح على يديه، كالقادسية وغيرها، وبالضرر ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي ومن معه، وهو كلام مردود، لتكلفه لغير ضرورة تحمل على إرادة الضرر الصادر من ولده. وقد وقع منه هو الضرر المذكور للكفار.
وأقوى من ذلك ما رواه الطحاويّ عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ عن أبيه أنه سأل عامر بن سعد عن معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا، فقال: لما أُمِّر سعد على العراق أُتِي بقوم ارتدوا فاستتابهم، فتاب بعضهم وامتنع بعضهم، فقتلهم فانتفع به من تاب، وحصل الضرر للآخرين.
قال بعض العلماء: لعل، وإن كانت للترجي، لكنها من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسوله غالبًا. قلت قد مرَّ في مقدمة هذا الشرح الفرق بين لعل وعسى، وأن عسى في كلام الله ما تدخل عليه محقق الوقوع، ولا كذلك لعل، لقوله تعالى {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فلم يتذكر ولم يخشَ فراجعه.
وقوله: لكن البائس سعد بن خولة، وللنَّسائيّ عن عامر بن سعد "لكن البائس سعد بن خولة، مات في الأرض التي هاجر منها" والبائس الذي ناله البؤس، أي: الفقير والعَيْلة، وقد يكون بمعنى مفعول، كقوله عيشة راضية، أي: مَرْضِيّة. وقال بعضهم في اسمه خُوْلِيّ بكسر اللام وتشديد التحتانية، واتفقوا على سكون الواو، وأغرب ابن التين فحكى عن القابسيّ فتحها، ويأتي تعريفه في السند.
وقوله: يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن عبد البَر: زعم أهل الحديث أن قوله يرثي إلخ من كلام الزُّهريّ، وقال ابن الجوزيّ وغيره. هو مدرج من قول الزهريّ، وكأنهم استندوا إلى ما في رواية أبي داود الطياليسيّ عن إبراهيم بن سعد عن الزهريّ أن القائل "يرثي له" إلى آخره، هو الزهريّ، ويؤيده أن هاشم بن هاشم وسعد بن إبراهيم رويا هذا الحديث عن عامر بن سعد، فلم يذكرا ذلك