للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفقر، فإن الوالد المشفِق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال، فأعلم -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنه، وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب، لكن حاله في المال يخالف حال الوالد، وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغنى الذي هو مطلوب الوالد لولده.

والمراد بالفقر العهديُّ، وهو ما كان عليه الصحابة من قلة الشيء، ويحتمل الجنس، والأول أولى، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى, لأن مضرة الفقر دنيوية غالبًا، ومضرة الغنى دينية غالبًا.

قلت: إنما لم يخش عليهم الفقر كخشية الوالد, لأنه علم أن الأموال تفيض عليهم، ولا يفتقرون، فلذا خاف عليهم عاقبة الغنى الذي علم أنهم يصيرون إليه، فلينظر ما قاله الطيبيّ. وقال ابن بطال فيه: إن زَهرة الدنيا، ينبغي لمن فتحت عليه، أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زُخرفها, ولا ينافس غيره فيها.

ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى, لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى، والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبًا، والفقير آمن من ذلك. وفيه إنذار بما سيقع فوقع، كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وقد فتحت عليهم الفتوح بعده، وآل الأمر إلى أن تحاسدوا وتقاتلوا، ووقع ما هو المشاهد المحسوس لكل أحد، مما يشهد بمصداق خبره عليه الصلاة والسلام.

ووقع من ذلك في هذا الحديث أخباره بأنه فَرَطُهم، أي: سابقهم، وكان كذلك، وأنّ أصحابه لا يشركون بعده، فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا، ومرَّ في ذلك حديث عمرو بن عوف قريبًا، وحديث أبي سعيد في معناه، فوقع كما أخبر، وفتحت عليهم الفتوح الكثيرة، وصبت عليهم الدنيا صبًا.

واستدل به على مشروعية الصلاة على الشهداء، وقد تقدم جواب الشافعيّ عنه بما لا مزيد عليه، فإن قلت: حديثُ جابرٍ لا يحتج به, لأنه نفي، وشهادة النفي مردودة مع عارضها في خبر الإِثبات أُجيب بأن شهادة النفي إنما تردُّ إذا لم يحط بها علم الشاهد، ولم تكن محصورة، وإلا فتقبل بالاتفاق، وهذه قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علمًا. وحديث الإثبات تقدم الجواب عنه.

وأجاب الحنفية بأنه تجوز الصلاة على القبر ما لم يتفسخ الميت، والشهداء لا يتفسخون، ولا يحصل لهم تغير، فالصلاة عليهم لا تمتنع أي وقت كان، وأوَّلَ أبو حنيفة الحديث في ترك الصلاة عليهم يومَ أُحُد على معنى اشتغاله عنهم، وقلة فراغه لذلك. وكان صعبًا على المسلمين، فغذوا بترك الصلاة عليهم يومئذ.

<<  <  ج: ص:  >  >>