المتقدمة أيضًا، واختلف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة.
وحكى أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة عن ذلك، فقال: كان هذا في أول الإِسلام قبل أن تنتزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد. قال أبو عُبَيد: كأنّه عني أنه لو كان يولد على الإِسلام فمات قبل أن يهوَّدَه أبواه مثلًا لم يَرثاه، والواقع في الحكم أنهما يرثانه، فدل على تغير الحكم، وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره، وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادَّعى فيه النسخ. والحق أنه إخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم- بما وقع في نفس الأمر، ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا.
وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإِسلام. قال ابن عبد البَر: هو المعروف عند عامة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الإِسلام، وبحديث عياض بن حِمار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه "أني خلقتُ عبادي حُنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم .. " الحديث. وقد رواه غيره فزاد "حنفاء مسلمين"، ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ} لأنها إضافة مدح، وقد أمر نبيه بلزومها، فعلم أنها الإِسلام.
وقال ابن جرير: قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي: سدد لطاعته حنيفًا أي: مستقيمًا. فطرة أي: صبغة الله، وهو منصوب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول، أو منصوب بفعل مقدَّر: أي: الزم. وقد مرَّ قول الزهريّ في الصلاة على المولود من أجل أنه ولد على فطرة الإِسلام، ويأتي في تفسير سورة الروم جزم المصنف بأن الفطرة الإِسلامُ، وقد قال أحمد: من مات أبواه وهما كافران حكم بإسلامه. واستدل بحديث الباب، فدل على أنه فسر الفطرة بالإِسلام، وتعقبه بعضهم بأنه كان يلزم أن الأصح استرقاقه، ولا يحكم بإسلامه، إذا أسلم أحد أبويه، والحق أن الحديث سِيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا. وحكى محمد بن نصر أن آخر قوْليْ أحمد أن المراد بالفطرة الإِسلام، وقال ابن القَيِّم: قد جاء عن أحمد أجوبة كثيرة يحتج فيها بهذا الحديث، على أن الطفل إنما يحكم بكفره بأبويه، فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم.
وروى أبو داود عن حمّاد بن سَلَمة أنه قال: المراد أن ذلك حيث أخذ الله عليهم العهد، حيث قال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ونقله ابن عبد البَرّ عن الأوزاعيّ وسَحْنون. ونقله أبو يعلي بن الغراء عن أحد الروايتين، عند أحمد، وهو ما حكاه الميمونيّ عنه، وذكره ابن بَطّة، وسيأتي في آخر الحديث، ثم يقول أبو هريرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى قوله القيم، وظاهره أنه من بقية الحديث المرفوع، وليس كذلك، بل هو من كلام أبي هريرة أُدرج في الخبر. بينه مسلم عن الزّبيديّ عن الزُّهْريّ، ولفظه "ثم يقول أبو هريرة اقرؤا أن شئتم" قلت: البيان الذي في مسلم هو الذي عند المصنف كل منهما عزا القول لأبي هريرة إلا أن مسلمًا قال إنه يقول "اقرؤا إن شئتم"، وهذا ليس فيه زيادة بيان بعد عزو القول له.