للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال القرطبيّ في "المفهم": كذا في الأصول، وعند أكثر الشيوخ، والمعنى أنه عرض عليه الشهادة، وكررها عليه. وقوله: آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب. وقوله هو أراد بذلك نفسه، ويحتمل أن يكون قال: أنا، فغيَّرها الراوي أنفةَ أن يحكي كلام أبي طالب، استقباحًا للفظ المذكور، وهو من التصرفات المستحسنة. وفي رواية مجاهد قال: يا ابن أخي، ملة الأشياخ. وعند مسلم والتِّرمذيّ والطبريّ عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لولا أن تعيّرني قريشٌ، يقولون ما حمله عليه إلا جَزَعَ الموت، لأقررت بها عينك.

وفي رواية الشعبي عند الطبري قال: لولا أن يكون عليك عار لم أبال أن أفعل، وضبط "جَزَع" بالجيم والزاي محركين، ولبعض رواة مسلم بالخاء المعجمة والراء، وقوله: وأبى أن يقول لا إله إلا الله، هو تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب، وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه ذلك منه في تلك الحال، وهذا القدر هو الذي يمكن إطلاعه عليه، ويحتمل أن يكون أطلعه النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك.

وقوله: والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عَنْك، وفي رواية, ما لم أُنه عنه، أي: الاستغفار. قال الزين بن المنير: ليس المراد طلب المغفرة العامة، والمسامحة بذنب الشرك، وإنما المراد تخفيف العذاب عنه، كما جاء مبينًا في حديث آخر، قال في الفتح: هذا غفلة شديدة منه، فإن الشفاعة لأبي طالب في تخفيف العذاب، لم ترد، وطلبها لم يُنْهَ عنه، وإنما وقع النهي عن طلب المغفرة العامة، وإنما ساغ ذلك للنبي اقتداءًا بإبراهيم في ذلك، ثم ورد نسخ ذلك، كما يأتي واضحًا قريبًا.

وقوله: فأنزل الله تعالى فيه الآية، يعني قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي: ما ينبغي لهم ذلك، وهو خبر بمعنى النهي، كذا هو في هذه الرواية.

وروى الطبريُّ عن عمرو بن دينار قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي" قال أصحابه: لنستغفرنَّ لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه، فنزلت، قال في الفتح: وهذا إشكال, لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقًا. قلت: لم أعرف وجه الإشكال، فإنه عليه الصلاة والسلام بمكة كانت له أصحاب ماتت آباؤهم على الكفر، فيمكن أن يحصل منهم هذا القول.

وقد ثبت أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى قبر أمه لما اعتمر، فاستأذن ربه أن يستغفر لها، فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرار النزول، وأخرج الحاكم وابن أبي حاتم عن مسروق عن ابن مسعود قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى المقابر، فاتبعناه، فجاء حتي جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلًا، ثم بكى فبكينا لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أُمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها، فلم يأذن لي، فأنزل الله عليّه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}.

<<  <  ج: ص:  >  >>