وقال ابن المنير في الحاشية: أراد البخاري أن الذي ينفع أصحاب القبور هي الأعمال الصالحة، وأن عُلُو البناء والجلوس عليه، وغير ذلك، لا يضر بصورته، وإنما يضر بمعناه، إذا تكلم القاعدون عليه مثلًا بما يضر، ويمكن أن يقال: هذه الآثار المذكورة في هذا الباب يحتاج إلى بيان مناسبتها للترجمة، وإلى مناسبة بعضها لبعض، وذلك أنه لم يذكر حكم وضع الجريدة، وذكر أثر بُريدة، وهو يؤذن بمشروعيتها، ثم أثر ابن عمر المُشْعِر بأنه لا تأثير لما يوضع على القبر، بل التأثير للعمل الصالح، وظاهرهما التعارض، فلذلك أبهم حكم وضع الجريدة، قاله الزين بن المنير.
والذي يظهر من تصرفه ترجيح الوضع، ويجاب عن أثر ابن عمر بأن ضرب الفسطاط على القبر لم يرد فيه ما ينتفع به الميت، بخلاف وضع الجريدة, لأن مشروعيتها ثبتت بفعله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان بعض العلماء قال إنها واقعة عين، يحتمل أن تكون مخصوصة بمن أطلعه الله تعالى على حال الميت، كما مرَّ في الباب المذكور آنفًا من الوضوء.
وأما الآثار الواردة في الجلوس على القبر، فإن عموم قول ابن عمر "إنما يظله عمله" يدخل فيه أنه كما لا ينتفع بتظليله، ولو كان تعظيمًا له، لا يتضرر بالجلوس عليه، وان كان تحقيرًا له. الظاهر أن في هذا الأثر الإشارة إلى أن ضرب الفسطاط إن كان لغرض صحيح، كالستر من الشمس مثلًا للحي، لا لإظلال الميت فقط، جاز، وكأنه يقول: إذا أعلى القبر لغرض صحيح، لا لقصد المباهاة، جاز، كما يجوز القعود عليه لغرض صحيح، لا لمن أحدث عليه.
وأثر خارجة هذا، وصله البخاري في التاريخ الصغير من طريق ابن إسحاق، وخارجة قد مرَّ هو وعثمان بن مظعون في السادس من الجنائز، ومرَّ عثمان بن عفان بعد الخامس من العلم. ثم قال: وقال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجه فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمه يزيد بن ثابت، قال: إنما كره ذلك لمن أحدث عليه، وسبب إخبار خارجة لعثمان بن حكيم بذلك، هو ما أخرجه مسدد في مسنده: أن عثمان بن حكيم حدّثه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن سرجس أنهما سمعا أبا هريرة يقول: لأنْ أجلس على جمرة فتحرق ما دون لحمي، حتى تفضي إليّ، أحَبُّ إليّ من أن أجلس على قبر" قال عثمان: فرأيت خارجه بن زيد في المقابر، فذكرت له ذلك، فأخذ بيدي .. الحديث، وإسناده صحيح.
وأخرج مسلم حديث أبي هريرة مرفوعًا، وروى الطحاويّ عن محمد بن كعب قال: إنما قال أبو هريرة، من جلس على قبر يبول عليه، أو يتغوط، فكأنما جلس على جمرة. لكنّ إسناده ضعيف. قال ابن رشيد: الظاهر أن هذا الأثر، والذي بعده، من الباب الذي بعد هذا، وهو باب موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله. وكأنَّ بعض الرواة كتبه في غير موضعه.
قال: وقد يتكلف له طريق يكون به من الباب، وهو الإِشارة إلى أن ضرب الفسطاط، إلى آخر ما مرَّ في الأثر الذي قبله، وقوله: لمن أحدث عليه، المراد بالحدث هنا التغوطُ، ويحتمل أن يريد ما