هو أعم من ذلك، من إحداث ما لا يليق من الفحش، قولًا وفعلًا، لتأذّي الميت بذلك. فالمراد من النهي عن الجلوس على القبر الجلوسُ عليه للغائط أو البول، وذلك جائز في اللغة، يقال: جلس فلان للغائط، وجلس للبول، وهذا هو قول مالك وابن وهب وأبي حنيفة وصاحبيه.
قال العينيّ: فما ذكره أصحابنا في كتبهم من حرم وطء القبور، والنوم عليها, ليس على ما ينبغي، وذهب قوم إلى حمل الجلوس على ظاهره، وقالوا بكراهة الجلوس على القبر، وأبقوا أحاديث النهي على ظاهرها، والقائل بهذا الحسن وابن سيرين والشافعيّ وأحمد وإسحاق وغيرهم. وعزاه في الفتح إلى الجمهور، واحتج الأولون بأثر ابن عمر الآتي بعد هذا, وأخرج الطحاويّ عن عليّ نحوه، وأخرج عن زيد بن ثابت مرفوعًا "إنما نهى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن الجلوس على القبور لحدث غائط أو بول". ورجال إسناده ثقات.
واحتج الآخرون بما أخرجه أحمد عن عمرو بن حزم الأنصاري مرفوعًا "لا تقعدوا على القبور" وفي رواية عنه "رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا متكىء على القبر، فقال: "لا تؤذ صاحب القبر" إسناده صحيح، وهو دال على أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته، ورد ابن حزم التأويل المتقدم بأن لفظ حديث أبي هُريرة عند مسلم "لَأنْ يجلس أحدكم على جمرةٍ فتحرقَ ثيابه، فتخلصَ إلى جلده"، قال: وما عهدنا أحدًا يقعد على ثيابه للغائط، فدل على أن المراد القعود على حقيقته. وقال ابن بطال: التأويل المذكور بعيد, لأن الحدث على القبر أقبح من أن يكره، وإنما يكره الجلوس المتعارف.
تعليق عثمان هذا، وصله مسدد في مسنده الكبير، وفيه ثلاثة رجال، مرَّ عثمان بن حكيم في التاسع من الجمعة، ومرَّ محل خارجة في الذي قبله، وعم خارجة يزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاريّ أخو زيد بن ثابت الفرض، قال خليفة: شهد بدرًا، وأنكره غيره، وقالوا: إنه استشهد في اليمامة، له أحاديث، روى عنه ابن أخيه خارجة بن زيد، ذكره البخاري في هذا التعليق، وأخرج النَّسائي عن خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه في القيام للجنازة.
ثم قال: وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، يجلس على القبور، ولا يعارض هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه، قال: لَأن أطأ على رَضَف أحب إليّ من أنْ أطأ على قبر" قاله في الفتح. لا أدري وجه نفي المعارضة مع حصولها، وأخرج مسلم عن أبي مرثد الغنويّ مرفوعًا "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" وهذا التعليق وصله الطحاويّ ونافع، مرَّ في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه.