للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان قد فرغ منه، فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل .. " الحديث. أخرجه الفريابيّ.

وقوله: أفلا نتكل، الفاء معقبة لشيء محذوف تقديره: أفإذا كان كذلك فلا نتكل؟ وقوله: على كتابنا وندع العمل، أي: نعتمد على ما قدر علينا، وفي رواية القدر الآتية "اعملوا، فكلكم ميسر لما خلق له" وحاصل السؤال ألا نترك مشقة العمل، فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب لا مشقة, لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله.

قال الطيبيّ: الجواب من الأسلوب الحكيم، منعهم عن ترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة، فلا يجعلوا العبادة وتركها سببًا مستقلًا لدخول الجنة والنار، بل هي علامات فقط، وقوله: فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة .. الخ، قد مرَّ الكلام على الشقي والسعيد، وما قيل في معناه من الخلاف في باب "مُخَلَّقة وغير مخلقة" من كتاب الحيض.

وقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية، وساق في رواية سفيان ووكيع الآيات إلى قوله {لِلْعُسْرَى} وعند الطبرانيّ عن ابن عباس نحو حديث عمر، وفي آخر حديث سُراقة، ولفظه "فقال يا رسول الله، ففيم العمل إذا قال: كلٌ لا ينال إلا بالعمل؟ قال عمر: إذًا نجتهد" وأخرج الفريابيّ بسند صحيح إلى بشير بن كعب قال: سأل غلامان رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فيم العمل؟ فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم شيء نستأنفه؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، فإلاّ ففيم العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما هو عامل، قالا: فالجِدّ الآن.

وفي الحديث جواز القعود عند القبور، والتحديث عندها بالعمل والموعظة، ومناسبته للقصة أن فيه إشارة إلى التسلية عن الميت بأنه مات بفراغ أجله، وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم. وفيه رد على الجبرية, لأن التيسير ضد الجبر, لأن الجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإِنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له.

واستدل به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا، كمن اشتهر له بلسان صدق، وعكسه, لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر، ورد بما جاء في حديث ابن مسعود الآتي في كتاب القدر "أن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع .. " الخ فإن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قدر، والحق أن العمل أمارة وعلامة، فيحكم بظاهر الأمر، وأمر الباطن إلى الله تعالى.

قال الخطابيّ: لما أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن سَبْق الكائنات، رامَ مَنْ تَمسَّك بالقدر أن يتخذه حجة في ترك العمل، فأعلمهم أن هنا أمرين لا يبطل أحدهما بالآخر: باطنٌ، وهو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر، وهو العلامة اللازمة في حق العبودية، وإنما هي أمارة مُخيلة في مطالعة علم

<<  <  ج: ص:  >  >>