وقال النوويّ: هو منصوب بنزع الخافض، أي: أُثني عليها بخير، وقال ابن مالك:"خيرًا"، صفة لمصدر محذوف فأقيمت مقامه، فنصبت لأن أثنى مسند إلى الجار والمجرور. قال: والتفاوت بين الإِسناد إلى المصدر والإِسناد إلى الجار والمجرور قليلٌ. وقوله: فقال أبو الأسود، هو الراوي، وهو بالإِسناد والمذكور.
فقلت: وما وجبت، هو معطوف على شيء مقدّر، أي: قلت: هذا شيء عجيب، وما معنى قولك لكل منهما وجبت مع اختلاف الثناء بالخير والشر؟ وقوله: أيما مسلم الظاهر أنه هو المقول، وحينئذ يكون قول عمر لكل منهما: وجبت، قاله بناء على اعتقاده صدق الوعد المستفاد من قوله -صلى الله عليه وسلم- "أدخله الله الجنة" وأما اقتصار عمر على ذكر أحد الشقين، فهو إما للاختصار، وإما لاحالته السامع على القياس، والأول أظهر.
وعرف من القصة المذكورة أن المثني على كل من الجنائز كان أكثر من واحد، وكذا في قول عمر "قلنا: وما وجبت" إشارة إلى أن السائل عن ذلك هو وغيره، وقد وقع في تفسير قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} في البقرة عند ابن أبي حاتم عن أبي هُريرة أن أُبيّ بن كعب ممن سأل عن ذلك. وقوله: فقلنا: وثلاثة؟ فيه اعتبار مفهوم الموافقة, لأنه سأل عن الثلاثة، ولم يسأل عما فوق الأربعة، كالخمسة مثلًا. وفيه أن مفهوم العدد ليس دليلًا قطعيًا، بل هو في مقام الاحتمال.
وقوله: ثم لم نسأله عن الواحد، قال الزين بن المنير: إنما لم يسأل عمر عن الواحد استبعادًا منه أن يكتفى في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب، وقال أخوه في الحاشية: فيه إيماء إلى الاكتفاء بالتزكية بواحد، كذا قال. وفيه نظر، وقد استدل به المصنف على أن أقل ما يكتفى به في الشهادة اثنان، كما يأتي في كتاب الشهادات، إن شاء الله تعالى.
قال الداوديّ: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة, لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ولا مَنْ بَيْنه وبني الميت عداوة, لأن شهادة العدو لا تقبل، وفي الحديث فضيلة هذه الأمة، وإعمال الحكم بالظاهر. ونقل الطيبيّ عن بعض الشراح المصابيح، قال: ليس معنى قوله "أنتم شهداء الله في الأرض" أي: الذي يقولونه في حق شخص يكون كذلك، حتى يصير من يستحق الجنة من أهل النار بقولهم، ولا العكس، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيرًا رَأوْهُ منه كان ذلك علامة كونه من أهل الجنة، وبالعكس، وتعقبه الطيبيّ بأن قوله "وجبت" بعد الثناء حكمٌ عَقبَ وصفًا مناسبًا، فأشعر بالعلية، وكذا قوله "أنتم شهداء الله في الأرض" لأن الإِضافة فيه للتشريف، لأنهم بمنزلة عالية عند الله، فهو كالتزكية للأمة بعد أداء شهادتهم، فينبغي أن يكون لها أثر. قال: وإلى هذا يومى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وقد استشهد محمد بن كعب القُرظِيّ، لمّا روي عن جابر نحو حديث أنس، بهذه الآية، أخرجه الحاكم، وقد وقع ذلك في حديث مرفوع عند ابن أبي حاتم في التفسير، وفيه أن الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: وما قولكَ وَجَبت؟ هو أُبيّ بن كعب.