وقد روى ابن ماجةَ عن فاطمة بنت قيس: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:"ليس في المال حق سوى الزكاة" وفي رواية "في المال حق سوى الزكاة" وهذا الحديث ليس بصحيح، والصحيح أنه من كلام الشعبيّ، وقد قال به غيره من التابعين، كالحسن وعطاء وطاووس، ومذهب أكثر العلماء أن هذا على النَّدبْ والمواساة.
قال ابن بطال: يريد حق الكرم والمواساة، وشريف الأخلاق، لا أن ذلك فرض، وقال أيضًا: كانت عادة العرب التصديق باللبن علي الماء، فكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم، وقال أيضًا: الحق حقان: فرضُ عينٍ وغيره. فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق. وقال إسماعيل القاضي: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحد، فتجب فيها المواساة للضرورة التي تنزل، من ضيف مضطر، أو جائعٍ أو عار أو ميت ليس له من يواريه، فيجب حينئذ على مَنْ تمكنه المواساة التي تزول بها هذه الضرورات.
وقيل: المراد بالحق القدر الزائد على الواجب، ولا عقاب بتركه، وإنما ذكر استطرادًا لما ذكر، حقها بين الكمال فيه، وإن كان له أصل يزول الذم بفعله، وهو الزكاة، وقيل: كان هذا قبل فرض الزكاة، ويؤيده ما يأتي في حديث ابن عمر في الكنز، لكن يعكر عليه أن فرض الزكاة متقدم على إسلام أبي هريرة كما تقدم تقريره.
وفي الحديث أن الله يحيي البهائم ليعاقب مانع الزكاة، وفي ذلك معاملة له بنقض قصده؛ لأنه قصد منع حق الله تعالى منها، وهو الارتفاق والانتفاع بما يمنعه منها، فكان ما قصد الانتفاع به أضر الأشياء عليه، والحكمة في كونها تعاد كلها، مع أن حق الله فيها، إنما هو في بعضها؛ لأن الحق في جميع المال غير متميز، ولأن المال، لما لم تخرج زكاته، كان غير مطهر.
وقوله:"ولا يأتي أحدكم" في رواية النَّسَائيّ "ألا لا يأتين أحدكم" وفي رواية الجهاد "لا أُلْفِيَنَّ" بضم أوله، والفاء أي: لا أجدَنَّ، وهذا نفي مراد به النهي، وهو وإن كان من نهي المرء نفسه، فليس المراد ظاهره، وإنما المراد نهي مَنْ يخاطبه عن ذلك، وهذا طرف من حديث متعلق بالغلول من الغنائم، أخرجه المصنف مفردًا في أواخر الجهاد في باب الغلول.
وقوله:"لها يُعار" بتحتانية مضمومة ثم مهملة، صوت المعز، وفي رواية المستملي والكشمينهيّ "ثُغاء" بضم المثلثة ثم معجمة بغير راء، ورجحه ابن التين، وهو صياح الغنم، وحكى ابن التين عن القزاز أنه رواه "تُعار" بمثناة مضمومة ومهملة، وليس بشيء. وقوله:"رُغاء" بضم الراء ومعجمة، صوت الإبل.
وقوله:"لا أملك لك شيئًا من المغفرة" لأن الشفاعة أمْرُها إلى الله تعالى. وقوله:"قد بلغتك" أي: فليس لك عذر بعد الإبلاع، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- أبرز هذا الوعيد في مقام الزجر والتغليظ، وإلا فهو يوم القيامة صاحب الشفاعة في مذنبي الأمة، وهذا العمل، قال المهلب: إنه وعيد لمن أنفذه الله عليه