"وعندي منه دينار أو نصف دينار". وفي رواية سالم ومنصور "أَدَع منه قيراطًا، قال: قلت: قنطارًا؟ قال: قيراطًا". وفيه قال: يا أبا ذر، إنما أقول الذي هو أقل.
وفي رواية الأحنف الماضية "أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير" فظاهره نفي محبة حصول المال، ولو مع الانفاق، وليس مرادًا، وإنما المعنى نفي إنفاق البعض مقتصرًا عليه، فهو يحب إنفاق الكل إلا ما استثنى، وسائر الطرق تدل على ذلك، ويؤيده أن في رواية سليمان بن يسار عن أبي هُريرة عند أحمد "ما يسرني أن أُحُدَ كم هذا ذهبًا، أنفق منه كلَّ يوم في سبيل الله، فيمر بي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدَيْن" ويحتمل أن يكون على ظاهره، والمراد بالكراهة الإنفاق في خاصة نفسه، لا في سبيل الله فمحبوب. وفي الرقاق زيادة "إلا أن أقول به في عباد الله هكذا، وهكذا وهكذا، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه".
وقوله:"إلا أن أقول به" استثناء بعد استثناء، فيغير الإثبات، فيؤخذ منه أنّ نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق، فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق، فما دام الإنفاق مستمرًا لا يكره وُجود المال، وإذا انتفى الانفاق ثبتت كراهية وجود المال، ولا يلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر، ولو كان قدر أحدٍ أو أكثر، مع استمرار الإنفاق.
وقوله:"هكذا وهكذا وهكذا .. إلخ" هكذا اقتصر على ثلاث، وحمل على المبالغة؛ لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، والذي يظهر أن ذلك من تصرفات الرواة، وأن الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ونص عليه في البُشْرانيات عن حفص بن غياث بلفظ "إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وهكذا" وأرانا بيده. كذا فيه بإثبات الأربع، وأخرجه المصنف في الاستئذان عن حفص بن غياث، لكن اقتصر على ثلاث من الأربع، وأخرجه أبو نعيم عنه، واقتصر على اثنين، وفي الحديث زيادة كثيرة لم أتكلم عليها، يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في محلها في كتاب الرِّقاق.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم، الحثُّ على الإنفاق في وجوه الخير، وأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا، بحيث إنه لا يحب أن يبقى بيده شيءٌ من الدنيا إلا لإنفاقه فيمن يستحقه، وإما لإرصاده لمن له حق، وإما لتعذر من يقبل ذلك منه، لتقييده في رواية همّام عن أبي هُريرة الآتية في كتاب التمنّي بقوله:"أجد من يقبله"، ومن هذا يؤخذ جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء إذا لم يوجد مَنْ يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يعزل القدر الواجب من ماله، ويجتهد في حصول مَنْ يأخذه، فإن لم يجد، فلا حرج عليه، ولا ينسب إلى تقصير في حبسه، ولا ضمان عليه إن ضاع، وإن ضاع الأصل لزمه إخراجه.
وفيه تقدم وفاء الدين على صدقة التطوع. وفيه جواز الاستقراض، وقيده ابن بطال باليسير، أخذًا من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا دينارًا" قال: ولو كان عليه أكثر من ذلك لم يرصد لأدائه دينارًا واحدًا؛ لأنه