مثلًا شيئًا فشيئًا، ولا يصيبها منه ألم، وهذا الأخير فيه نظر، فإنَّ سياق الحديث يقتضي وجود الخبَطَ للجميع، إلا لمن وقعت منه المداومة، حتى اندفع عنه ما يضره، وليس المراد أنَّ آكلة الخضر لا يحصل لها من أكله ضرر البتة، والمستنثى آكلة الخضر بالوصف المذكور لا كل من اتصف بأنه آكلة الخضرة. ولعل قائله وقعت له رواية فيها "يقتل أو يلم إلا آكلة الخضر" ولم يذكر ما بعده، فشرحه على ظاهر هذا الاختصار.
وقوله:"فنعم صاحب المسلم هو" وفي رواية: فنعم المعونة. وقوله:"وإنه من يأخذه بغير حقه" وفي رواية: وإنْ أخذه بغير حقه. وقوله:"كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة" يحتمل أن يشهد عليه حقيقة بأن ينطقه الله تعالى، ويجوز أن يكون مجازًا. والمراد شهادة المَلَك الموكَّل به. ويؤخذ من الحديث التمثيل لثلاثة أصناف؛ لأن الماشية إذا رعت الخضر للتغذية، إما أن تقتصر منه على الكفاية، وإما أن تستكثر الأول الزهاد، والثاني إما أن يحتال على إخراج ما لو بقي لضر، فإذا أخرجه زال المُّضر، واستمر النفع. وإما أن يهمل ذلك الأولَ العاملون في جمع الدنيا مما يجب من إمساك ويدل. والثاني العاملون في ذلك، بخلاف ذلك.
وقال الطيبي: يؤخذ منه أربعة أصناف: فمن آكل منه أكْل مستلذٍ مفرط منهمك حتى تنتفخ أضلاعه، ولا يقلع، فيسرع إليه الهلاك. ومن آكل كذلك، لكنه أخذ في الاحتيال لدفع الداء بعد أن استحكم فغلبه، فأهلكه. ومن آكل كذلك، لكنه بادر إلى إزالة ما يضره، وتحيل في دفعه حتى انهضم، فيسلم. ومن كل غير مفرط ولا منهمك، وإنما اقتصر على ما يسد جوعته، ويمسك رَمَقه.
فالأول مثال الكافر، والثاني مثال العاصي الغافل عن الإقلاع والتوبة، إلا عند فوتها والثالث: مثال للمخلِّط المبادر للتوبة، حيث تكون مقبولة. والرابع: مثل الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة. وبعضها لم يصرح به في الحديث، وأخذه منه محتمل.
وقوله:"فنعم المعونة" كالتذييل للكلام المتقدم. وفيه حذفٌ تقديره: إن عمل فيه بالحق. وفيه إشارة إلى عسكه، وهو بئيس الرفيق. هو لمن عمل فيه بغير الحق، وقوله:"كالذي يأكل ولا يشبع" ذكر في مقابلة "فتعم المعونة هو" وقوله: "ويكون شهيدًا عليه" أي حجة يشهد عليه بحرصه وإسرافه وإنفاقه فيما لا يرضي الله.
وقال الزين بن المنير: في هذا الحديث وجوه من التشبيهات بديعة.
أولها: تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره.
ثانيها: تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب.
ثالثها: تشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشَّرَه في الأكل، والامتلاء منه.
رابعها: تشبيه من المال مع عظمته في النفوس حتى أدى إلى المبالغة في البخل به، بما تطرحه البهيمة من السِّلْح، ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعًا.