يقول وجب عليه الخلود، وقال {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وفي رواية سعيد عند أحمد بعد قوله "إلا من حبسه القرآن" عن أنس بن مالك "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة .. " الحديث.
وقد سبق سياقه في كتاب الإيمان مفردًا، وفي رواية معبد بن هلال عن الحسن عن أنس قال: "ثم أقوم الرابعة، فأقول: أي ربّ، إئذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول لي: ليس ذلك لك". فذكر بقية الحديث في إخراجهم. وقد تمسك به بعض المبتدعة في دعواهم أن من دخل النار من العُصاة لا يخرج منها، لقوله تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وأجاب أهل السنة بأنها نزلت في الكفار، وعلى تسليم أنها نزلت في أعم من ذلك، فقد ثبت تخصيص الموحدين بالإخراج، ولعل التأبيد في حق من يتأخر بعد شفاعة الشافعين، حتى يخرجوا بقبضة أرحم الراحمين، فيكون التأبيد مؤقتًا.
وقال عياض: استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء، كقول كل من ذكر فيه ما ذكر، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة، وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ عن جهة القول، واختلفوا في الفعل، فمنعه بعضهم في النسيان، وأجاز الجمهور السهو، لكن لا يحصل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر، فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقًا، وأوَّلوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر منهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم، أو بسهوٍ أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقًا لمقامهم، فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال: وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة، وإن قالوا بعصمتهم مطلقًا، لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقًا، ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالإقتداء به في أفعاله، فلو جاز منه وقوع المعصيه للزم الأمر بالشيء الواحد، والنهي عنه في حالة واحدة. وهو باطل.
ثم قال عياض: وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه؛ لأن أكل آدم من الشجرة كان سهو، وطلبُ نوح نجاة ابنه كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كان معاريض، وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرًا، وفيه جوز إطلاق الغضب على الله تعالى، والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها، ولا يكون. كذا قال النوويّ. وقال غيره: المراد بالغضب لازمه، وهو إرادة ايصال السوء للبعض. وقول آدم ومن بعده "نفسي نفسي نفسي" أي: التي تستحق أن يشفع لها؛ لأن المبتدأ والخبر كانا متحدين، فالمراد به بعض اللوازم، ويحتمل أن يكون أحدهما محذوفًا، وفيه تفضيل محمد -صلى الله عليه وسلم- على جميع الخلق، لأن الرسل والأنبياء والملائكة أفضل ممن سواهم. وقد ظهر فضله في هذا المقام عليهم.