والفرق بين المعدن والركاز في الوجوب وعدمه، أن المعدن يحتاج إلى عمل ومؤونة ومعالجة لاستخراجه، بخلاف الركاز. وقد جرت عادة الشرع أن ما غلظت مؤونته خفف عنه في قدر الزكاة، وما خفت زيد فيه. وقيل: إنما جعل في الركاز الخمس لأنه مال كافر، فنزل من وجده منزلة الغنائم، فكأن له أربعة أخماسه. وقال الزين بن المنير: كأنَّ الركاز مأخوذ من أرْكزته في الأرض إذا غَرَزته فيها. وأما المعدن فإنه ينبت في الأرض بغير وضع واضع، هذه حقيقتهما، فإذا افترقا في أصلهما، فكذلك في حكمهما.
وحيث إن ابن التين جزم بأن المراد بالبعض هنا أبو حنيفة، اذكر تعريفه، فأقول: هو فقيه العراق النعمان بن ثابت بن زوطا التيميّ الكوفيّ مولى بني تيم الله بن ثعلبة، وقيل إنه من أبناء فارس. قال العجليّ: أبو حنيفة كوفي تيمي من رهط حمزة الزيات، كان خزازًا يبيع الخز. وروى عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. قال: نحن من أبناء فارس الأحرار، ولد جدي النعمان سنة ثمانين، وذهب جدي ثابت إلى عليّ وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. قال ابن مُعين: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ.
وقال الذهبيّ: كان إمامًا ورعًا عالمًا عاملًا متعبدًا كبير الشأن، لا يقبل جوائز السلطان، بل يتجر ويتكسب، وسئل يزيد بن هارون: أيُّما أفقه؛ الثَّوريُّ أو أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه، وسفيان أحفظ للحديث. وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس، ما رأيت في الفقه مثله. وقال أيضًا: لولا أن الله تعالى أغاثني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس. وقال سليمان بن أبي شيخ: كان أبو حنيفة ورعًا سخيًا، وقال روح بن عبادة: كنت عند ابن جريج سنة خمسين ومئة، فأتاه موت أبي حنيفة، فاسترجع وتوجع، وقال: أي علم ذهب.
قال: وفيها مات ابن جريج، وقال أبو نعيم: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل، وقال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله. قال ابن مُعين: كان القطان يذهب إلى قول الكوفيين، ويختار قوله من قولهم. وقال الشافعيّ: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمعت رجلًا يقول لرجل: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان بعد ذلك يُحيي الليل. وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه حماد: لما مات أبي سألنا الحسن بن عمارة أن يتولى غسله ففعل: فلما غسله قال: رحمك الله تعالى، وغفر لك، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك بالليل منذ أربعين سنة. وقد أتعبت من بعدك، وفضحت القراء.
وكلم ابن هبيرة أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة، فأبى عليه، فضربه مئة سوط وعشرة أسواط، وهو على الامتناع فلما رأى ذلك خلّى سبيله، وقال الخريبيّ: الناس في أبي حنيفة حاسد وجاهل. وقال أحمد بن عبدة: قاضي الرّي عن أبيه: كنا عند ابن عائشة، فذكر حديثًا لأبي حنيفة، ثم قال: