وقوله: ثم رفع يديه حتى رأينا عُفْرتي إبطيه، وفي رواية عُفْرة إبطه، بالإفراد. ولأبي ذر: عَفْر، بفتح أوله، ولبعضهم بفتح الفاء أيضًا بلا هاء، والعُفْرَة، بضم المهلة وسكون الفاء، تقدم شرحها في أبواب صفة الصلاة. وحاصله أن العَفر بياض ليس بالناصع. وقوله: ألا هل بلّغت ثلاثًا، بالتخفيف، وبلغت بالتشديد. وثلاثًا أي أعادها ثلاثًا. وفي رواية في الهبة: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، ثلاثًا. وعند مسلم: اللهم هل بلغت مرتين، والمراد بلغت حكم الله تعالى إليكم، امتثالًا لقوله تعالى {بَلَغَ} وإشارة إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم هل بلغهم أنبياؤهم ما أرسلوا به إليهم.
وفي الحديث من الفوائد أن الإمام يخطب في الأمور المهمة، واستعمال "أما بعد" في الخطبة، كما تقدم في الجمعة، ومشروعية محاسبة المؤتمن، ومنع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم، إذا لم يأذن الإمام في ذلك، لما أخرجه التِّرمذيّ، عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، فقال:"لا تصيبن شيئًا بغير أذني، فإنه غُلول". وقال المهلب: فيه أنها إذا أُخذت تجعل في بيت المال، ولا يختص العامل منها إلا بما أذن له فيه الإِمام. وهو مبني على أن ابن اللُّتْبيَّة أخذ منه ما ذكر أنه أهدي له، لكن لم يرد ذلك صريحًا كما مرَّ. وقال ابن قُدامة في "المغني" لما ذكر الرشوة: وعليه ردها لصاحبها، ويحتمل أن يجعل في بيت المال؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له لمن أهداها.
وقال ابن بطال: يلتحق بهدية العامل الهدية لرب الدَّين ممن له عليه دَين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دَينه. وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه، والانفراد بالمأخوذ. وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله "هلاّ جلس في بيت أبيه وأمه" جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك، ومحل ذلك إذا لم يزد على العادة. وفيه أن من رأى متاولًا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به، أن يشهر القول للناس، ويبين خطأه، ليحذر من الاغترار به.
وفيه جواز توبيخ المخطيء، واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة، مع وجود من هو أفضل منه، وفيه استشهاد الراوي والناقل بقول من يوافقه ليكون أوقع في نفس السامع، وأبلغ في طمأنينته، وفيه أن السعاة لا يستحقون على قبضها جزاء منها معلوما سبعًا أو ثمنًا وإنما له أجر عمله على حسب اجتهاد الإِمام.
وهذا الحديث هو أصل فعل عمر، رضي الله تعالى عنه، في محاسبة العمال، وإنما فعل ذلك لما رأى ما قالوه من كثرة الأرباح، وعلم أن ذلك من سلطانهم، وسلطانُهم إنما كان بالمسلمين، فرأى مقاسمة أموالهم، واقتدى بقوله عليه الصلاة والسلام "أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، فيرى أيهدى له شيء أم لا" ومعناه: لولا الإمارة لم يهدَ له شيء، وهذا اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه، وإنما أخذ منهم ما أخذ لبيت مال المسلمين لا لنفسه.