وكيدك بهوازن، فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة، فقال:"إني لأرجو أن يجمعها الله لي فتح مكة، وإعزاز الإِسلام بها، وهزيمة هوازن، وغنيمة أموالهم"، فقال أبو سفيان وحكيم: ادعوا الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها أآمنون هم؟ قال:"من كف يده، وأغلق داره فهو آمن"، قالوا: فابعثنا نؤذن فيهم بذلك، قال:"انطلقوا، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم فهو آمن"، ودار أبي سفيان بأعلى مكة، ودار حكيم بأسفلها، فلما توجها قال العباس: يا رسول الله! إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد فرده حتى تريه جنود الله، قال:"افعل".
فذكر القصة، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان هذا أمانًا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثم قال الشافعي: كانت مكة مأمونة ولم يكن فتحها عنوة، والأمان كالصلح، وأما الذين تعرضوا للقتال أو الذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة، ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره -صلى الله عليه وسلم- بالقتال وبين حديث تأمينه -صلى الله عليه وسلم- لهم بأن يكون التأمين علق على شرط، وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك، وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه، فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة؛ لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع، وبالأكثر لا بالأقل، ولا خلاف مع ذلك أنها لم يجر فيها قسم غنيمة ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد، وهو مما يؤيد قول من قال: لم يكن فتحها عنوة، وعند أبي داود بإسناد حسن عن جابر أنه سئل: هل غنمتم يوم الفتح شيئًا؟ قال: لا وجنحت طائفة -منهم الماوردي- إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في "الإكليل"، والحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع جمع منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها، وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحًا.
أما أولًا: فلأن الإِمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفًا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها.
وأما ثانيًا: فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا الكفار لم يغنموا الأموال فتنزل النار فتأكل، أو تصير الأرض عمومًا لهم كما قال الله تعالى:{ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، وقال:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، والمسألة مشهورة، هذا حاصل ما ذكر