وقوله:"فإن رجلًا كان يخبر" عني به ابن عباس، فإنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي وأهلّ بالحج إذا طاف يحل من حجه، وأن من أراد أن يستمر على حجه لا يقرب البيت حتى يرجع من عرفة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرة، وقد أخرج المصنف ذلك في باب: حجة الوداع في المغازي عن ابن جريج، حدثني عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا طاف بالبيت فقد حل، فقلت: من أين؟ فقال: هذا ابن عباس، قال: من قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} , ومن أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قلت: إنما كان ذلك بعد ذلك المعرف، قال: كان ابن عباس يراه قبل وبعد، والمعرف كمعظم الموقف بعرفات.
وأخرجه مسلم عن ابن جريج بلفظ: كان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غيره إلا حل، قلت لعطاء: من أين تقول ذلك؟ فذكره، ولمسلم عن قتادة: سمعت أبا حسان الأعرج، قال: قال رجل لابن عباس: ما هذه الفتيا أن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم، وإن رغمتم، وله عن وبرة بن عبد الرحمن، قال: كنت جالسًا عند ابن عمر، فجاءه رجل، فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ قال: نعم، قال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: قد حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف فبقول رسول الله أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقًا، وإذا تقرر ذلك فمعنى قوله في حديث أبي الأسود: قد فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, أي: أمر به وعرف أن هذا مذهب لابن عباس خالفه فيه الجمهور، ووافقه فيه ناس قليل، منهم إسحاق بن راهويه، وعرف أن مأخذه فيه ما ذكر، وجواب الجمهور أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة، ثم اختلفوا فذهب الأكثر إلى أن ذلك كان خاصًا بهم، وذهب طائفة إلى أن ذلك جائز لمن بعدهم، وقد مرَّ ما فيه، واتفقوا كلهم على أن من أهل بالحج مفردًا لا يضره الطواف بالبيت، وبذلك إحتج عروة في حديث الباب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالطواف ولم يحل من حجه، ولا صار عمرة، وكذا أبو بكر وعمر، فمعنى قوله:"ثم لم تكن عمرة"، أي: لم تكن الفعلة عمرة هذا إن كان بالنصب على أنه خبر كان، ويحتمل أن تكون كان تامة، والمعنى: ثم لم تحصل عمرة، وهي على هذا بالرفع، وفي رواية مسلم: بدل عمرة غيره بغين معجمة، وياء ساكنة آخره هاء، قال عياض: وهو تصحيف، قال النووي: لها وجه، أي: لم يكن غير الحج، وكذا وجهه القرطبي.