ذلك، ويصرح بذلك رواية سفيان المذكورة بلفظ: إنما كان من أهلّ بمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، وفي رواية معمر عن الزهري: إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، أخرجه البخاري تعليقًا، ووصله أحمد وغيره، وعند مسلم عن يونس، عن الزهري أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة، فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة، فطرق الزهري متفقة، واختلف فيه على هشام بن عروة، عن أبيه، فرواه مالك عنه بنحو رواية شعيب عن الزهري، ورواه أبو أُسامة عنه بلفظ: إنما أنزل الله هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، أخرجه مسلم، وظاهره يوافق رواية الزهري، وبذلك جزم محمد بن إسحاق فيما رواه الفاكهاني أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدًا، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من مني أتوا مناة، فأهلُّوا لها، فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة، قال: وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان، ومن دان دينهم من أهل يثرب، فهذا يوافق رواية الزهري.
وأخرج مسلم عن أبي معاوية، عن هشام هذا الحديث فخالف فيه جميع ما تقدم ولفظه: إنما كان ذلك لأن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر: أساف ونائلة، فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلون، فلما جاء الإِسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، فهذه الرواية تقتضي أن تحرجهم، إنما كان لئلا يفعلوا في الإِسلام شيئًا كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ لأن الإِسلام أبطل أفعال الجاهلية إلا ما أذن فيه الشارع، فخشوا أن يكون ذلك من أمر الجاهلية الذي أبطله الشارع، فهذه الرواية توجيهها ظاهر بخلاف رواية أبي أسامة، فإنها تقتضي أن التحرج عن الطواف بين الصفا والمروة لكونهم كانوا يفعلونه في الجاهلية، ولا يلزم من تركهم فعل شيء في الجاهلية أن يتحرجوا من فعله في الإِسلام، ولولا الزيادة التي في رواية يونس حيث قال:"وكانت سنة في آبائهم" لكان الجمع بين الروايتين ممكنًا بأن تقول: وقع في رواية الزهري حذف تقديره إنهم كانوا يهلون في الجاهلية لمناة، ثم يطوفون بين الصفا والمروة، فكان من أهلّ أي: بعد ذلك في الإِسلام يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة لئلا يضاهي فعل الجاهلية، ويمكن أن يكون في رواية أبي أسامة حذف تقديره: كانوا إذا أهلّوا لمناة في الجاهلية، فجاء الإِسلام، فظنوا أنه أبطل ذلك، فلا يحل لهم، ويبين ذلك رواية أبي معاوية المارة حيث قال فيها: فلما جاء الإِسلام