الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، وأما في حال الأمن والوصول، فلا يجوز الحلق حتى يبلغ الهدي محله، ويفرغ الناس من أفعال الحج والعمرة -إن كان قارنًا- أو من فعل أحدهما -إن كان مفردًا- أو متمتعًا.
ثم قال:"وقال عطاء: الإحصار من كل شيء يحبسه".
في اقتصاره على تفسير عطاء إشارة إلى أنه اختار القول بتعميم الإحصار، وهي مسألة اختلاف كما مرَّ مستوفى قريبًا، وهذا الأثر وصله عبد بن حميد عن ابن جريج، عنه قال: في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال: الإحصار من كل شيء يحبسه، وروى ابن المنذر، عن ابن عباس نحوه، ولفظه، فإن أُحصرتم قال: من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده، أو عدو يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، فإن كانت حجة الإِسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد الفريضة فلا قضاء عليه، وقد وصله ابن أبي شيبة أيضًا، وعطاء قد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم.
ثم قال:"قال أبو عبد الله: حصورا لا يأتي النساء".
هكذا ثبت هذا التفسير هنا في رواية المستملي خاصة، ونقله الطبري عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد، وقد حكاه أبو عبيدة في المجاز، وقال: إن له معاني أخرى فذكرها، وهو بمعنى محصور؛ لأنه منع مما يكون من الرجال، وقد ورد فعول بمعنى مفعول كثيرًا، وكان البخاري أراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى أن المادة واحدة، والجامع بين معانيها المنع، قال القاضي عياض: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصور ليس كما قاله بعضهم من أنه كان هيوبا أو لا ذكر له، بل أنكر حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا: هذه عيب ونقيصة، ولا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما معناه معصوم من الذنوب لا يأتيها، كأنه حصر عنها، وقيل: مانعًا نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء، والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء كما قيل، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال، وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل من دعاء زكريا عليه السلام حيث قال:{هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} كأنه سأل ولدا له ذرية ونسل وعقب.