وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده، ونسبة التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في اشتعال النار التي يقع بها التمييز، واستدل بهذا الحديث على أن المدينة أفضل البلاد، قال المهلب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإِسلام فصار الجميع في صحائف أهلها، ولأنها تنفي الخبث، وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة، فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين. قلت: في هذا الجواب نظر؛ لأن الذين فتحوا مكة -وإن كان معظمهم من أهلها- لم يفتحوها إلا باسم المدينة، والسكنى فيها، فلا ينفي ذلك فضل المدينة بهذه المزية، وعن الثاني بأن ذلك إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ وأبو عبيدة، وابن مسعود وطائفة، ثم علي وطلحة والزبير، وعمار، وآخرون وهم من أطيب الخلق فدلّ على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس، ووقت دون وقت.
قلت: هذا الخروج الواقع من أولئك الأفاضل لا يصدق عليه النفي، ولا يتناوله، وقال ابن حزم لو فتحت بلد من بلد، فثبت بذلك الفضل للأولى، للزم أن تكن البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرهما، مما فتح من جهة البصرة؛ وليس كذلك، قلت: من أين له بأن الأمر ليس كذلك، بل الظاهر أن الأمر كذلك، فتكون البصرة أفضل مما فتح بعدها لقدمها في الإِسلام.
وقد استنبط ابن أبي جمرة من قوله عليه الصلاة والسلام:"ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة" التساوي بين فضل مكة والمدينة، ومباحث التفضيل بين الموضعين مشهورة، وقال الأبي من المالكية، واختار ابن رشد وشيخنا أبو عبد الله ابن عرفة تفضيل مكة، واحتج ابن رشد لذلك بأن الله تعالى جعل بها قبلة الصلاة، وكعبة الحج، وأن الله تعالى جعل لها مزية بتحريم الله تعالى إياها، إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، وأجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على من صاد بحرمها، ولم يجمعوا على وجوبه على من صاد بالمدينة، ومن دخله كان آمنًا، ولم يقل أخد بذلك في المدينة، والذنب في حرم مكة أغلظ منه في حرم المدينة، فكان ذلك دليلًا على فضلها عليها، قال: ولا حجة في الأحاديث المرغبة في سكنى المدينة على فضلها عليها، قال: ولا دليل في قوله: أُمرت بقرية تأكل القرى لأنه إنما أخبر أنه أمر بالهجرة إلى قرية تفتح منها البلاد، قلت: وهذا الذي أخبر به من كونها تفتح منها البلاد أي: مزية فوقه.