للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يخلفك في أهلك. فبلغ ذلك أخي، فقلنا: والله لا نُساكنُه بعد هذا، فارتحلنا، فانطلق أخي فأتى مكة، ثم قال لي: أتيتُ مكة فرأيتُ رجلًا بمكةَ على دينِك يزعم أن الله تعالى أرسله. قلت: فما يقول النّاس؟ قال: يقولون شاعرٌ كاهنٌ ساحرٌ. وكان أُنيسٌ شاعرًا. قال أُنيْس: لقد سمعتُ قولَ الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قولَه على أمراء الشعراء فما يلْتَئمُ على لسان أحدٍ بعهدي أنه شعر. والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.

قال أبو ذَرّ: قلت: فاكْفني حتى أذهب فأنْظُر. قال: فأتيتُ مكة فَتَضَعَّفتُ رجلًا منهم، فقلت له: أين هذا الذي تدعونَه الصّابىء؟ فأشار إليّ فقال: الصابىء؟ فمال علي أهل الوادي بكل مَدَرة وعَظم حتى خَرَرتُ مغشيًّا عليّ، قال: فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأني نُصُب أحْمر، فأتيت زمزَمَ فغسلت عني الدماء، وشربتُ من مائها. ولقد لبثْت ثلاثين بين ليلة ويوم مختبئًا بين الكعبة وأستارها ما كان لي طعامٌ إلا ماء زمزم، فَسَمنْتُ حتى تكسرتْ عُكَنُ بطني، وما وجدتُ على كبدي سَخْفَةَ جوعٍ.

قال فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إِضْحيان، إذ ضُرب على أسمخَتهم، فما يطُوف بالبيت أحدٌ، وامرأتان منهم تدعوان أُسافًا ونائلة. فأتتا علي في طوافهما، فقلت: أنكحا إحداهما الأُخرى فما تناهَتَا عن قولهما، ثم أتتا عليّ فقلت: هَنٌ مثل الخشبة غير أني لا أُكْني، فانطلقتا تُولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحدٌ من أنفارنا، فاستقبلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وهما هابطان. قال: مالكما؟ قالت: الصابىءُ بين الكعبة وأستارها، قال: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال كلمة تملأ الفم.

وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، فلما قضى صلاته كنتُ أنا أوّل من حيّاه بتحيةِ الإِسلام، فقلت: السلامُ عليك يا رسول الله، فقال: وعليكَ السلام ورحمةُ الله، ثم قال: من أنت؟ قلتُ: من غِفار. فأهوى بيده، فوضع يده على

<<  <  ج: ص:  >  >>